طارق فريجون مخرج سوداني مات بالحسرة
استطاع طارق فريجون بأفلامه الوثائقية التي قدمها إعادة الروح للكثير من الأمكنة والأزمنة التي كادت أن تُنسي في غمرة الأحداث المتلاحقة- سياسياً- فالحروب مثلا طمست معالم كثير من المدن كما انها خربت وجدان وعقول كثيرين ايضاً ورغم أن مهام الفيلم الوثائقي تسجيل الواقع بجماله وقُبحه لكن الإستقرار والإستمرار هما الدافع الأكبر لعملية الخلق والإبداع ، والإنقطاع وعدم مواصلة المبدع لمشواره يفقد الذهن صفائه وشموله.
طارق فريجون يقول حول ضرورة الفيلم الوثائقي «ما أحوج مخرجنا اليوم الى المساهمة في الدفاع عن ثروات البلاد الفريدة وعن اثار ومحميات طبيعية وحضارات تضرب في عمق التاريخ» ويضيف « يمكن القول إن الاسلوب الوثائقي يوفر وجهة نظر خارجية إضافية وذلك عن طريق استخدام التعليق«cover voice» واستخدام الجرافيك وكذلك إجراء اللقاءات والحوارات فكثير من المشاعر الخاصة لشخصيات بعض الأفلام وحتى الأحداث يسهل التعبير عنها بواسطة الحوار والتعليق وغيرهما من الاساليب الوثائقية .. لذلك يمكن الحديث عن الأفلام بشكل أقرب للدقة إذا قلنا إنها ذلك الإنتاج الذي يحكي قصة او يصف موضوعاً من موضوعات الحياة الواقعية مستخدماً اساليب وثائقية لتوفير دليل ومصداقية معززاً الصلة بالواقع ، تناولت الأفلام الوثائقية حياة الناس والمجتمعات ، العلوم والتاريخ والجغرافيا،، وفيلم قصر السودان هو البداية الفعلية لتجربته في الإنتاج الوثائقي ثم توالت التجارب، فجاء فيلم جبل مرة شلال السبلوقة ، حجر العسل، الدندر، خزان خشم القربة .. وغيرها من الافلام.. و اهتم بالتوثيق للمكان السوداني، لانه يستحق النظر إليه والإهتمام به كمكان جمالي ، بتنوعه المدهش والباهر ما يجعلك محباً ومفتوناً بفضائل اهله وسماحتهم ، هذه البلاد لا تستحق سوى أن تحبها وتخلص لها .. وجزء من هذا الإخلاص ان نوثق لها».
درس طارق فريجون بجامعة القاهرة الفرع في ثمانينيات القرن الماضي كلية التجارة ، لكن شقيقه راشد ظل
في نقاش دائم معه بغية تغيير مساره الأكاديمي ، خاصة وأن طارق يتمتع بموهبة الرسم والتشكيل لكنه لم يك مشغولا بالأمر كثيراً ، إلا بعد وفاة شقيقه الذي يعتبر بمثابة صديق حميم له.. فبعد رحيل شقيقه فكر في الأمر. واختار الإلتحاق بمعهد الموسيقى والمسرح بدل كلية الفنون .. فزامل تماضر شيخ الدين ومريم محمد الطيب ، وعبدالله ابسفة، والسني دفع الله ، وفي المعهد لابد أن تكون صديقاً للاخرين ، فليس من حجاب بينك وبينهم حتى الأساتذة وفي الفترة التي درس فيها طارق شهد المعهد نشاطاً ابداعياً مكثفاً ، كأن تجد زيارات الأساتذة والخبراء الفنيين للمعهد والتي قادت طلاب كثيرين لدراسة تخصصات لم يُلتفت إليها في ذلك الوقت ، فكان أن تخصص بعض طلاب المعهد في مسرح العرائس بعد تأثيرات الخبراء الأجانب، وطريقة تعليمهم وبث خبراتهم في هذا المجال غير المطروق في السودان في ذلك الوقت.
من أكثر العلاقات التي تركت تأثيرها عند طارق علاقته بأستاذه هاشم صديق.
لعب هاشم صديق دوراً كبيراً في حياة الطلاب ، وهو العارف بالمسرح والشعر والسياسة حين يحدثك في أمر تجد نفسك مشدوداً إليه بخيط رفيع من الحنين والالفة لأنه عميق المعرفة وشديد الصلة بالموضوع الذي يطرح ويتحدث» بعد أن تخرج طارق فريجون من المعهد التحق بالعمل في التلفزيون القومي وأصبح مخرجاً تلفزيونياً ومن أشهر البرامج التلفزيونية التي أخرجها « صور شعبية» الذي كان يقدمه الراحل الطيب محمد الطيب وهوبمثابة
الصديق وزن عشرة، حكاية مسرح الرجل الواحد، يتوسط الحضور، لتتداعي المشاهد والشخصيات يتلون الصوت.. وتظهر المؤثرات الصوتية ، ويستعرض الجسد النحيل ، قدراته العالية في التجسيد والرقص والغناء، يتحدث عن مسيرة الحجاج كيف بدأت من المنزل وعبر الإجراءات الروتينية الخاصة بالشعر ، يسخر من اهله الفقراء وقسوة الظروف ، لا ينسى الملبس والأزياء والمكياج الداخلي والخارجي، وشخصياته المرسومة بدقة الفنان الماهر، لا ينسى شيئاً ، يستمد من تجاوب جمهوره وضحكاته المزيد من الالق ، فيطلق نكاته وسخرياته في دراما الحياة الشعبية في القرى والأحياء الشعبية ، ما أن يفرغ من السخرية من فقراء المدينة حتى يقارن حياة الترف التي يعيشها آخرون فيقارن بين سفرهم الميمون بالطائرة في دعة وسهولة بينما الفقراء محشورون في سطح السفن والبواخر يعانون ما يعانون من دوار البحر واكتظاظ السفينة وفقدان المتاع ليعود فجأة الى الأثرياء وصوالينهم الفخمة والكرامات والذبائح وعودة الحجاج واستقبال المدائح للعائدين الفائزين ، فهذا هو الطيب محمد الطيب في وسط المجلس يستزيده ويدفعه الى الامام حيث الذروة التي لا يعلمها إلا من يكابدها من أمثال شيخه الطيب محمد الطيب فالحياة لحظة من لحظات المجد ، عرف الطيب بحسه الفني المرهف كيف يتلقفها وهي طازجة ليضعها في مائدة الصور الشعبية التى استمتع بها الناس سنوات وسنوات.
الأجواء التي يعيشها أفراد العمل في صور شعبية الرحلات ، الأماكن الناس الذين التقوا بهم ، التراث الذي عرف وأعيد اكتشافه مرة أخرى للمشاهد…
كل هذا كان يمثل لطارق فريجون وكل من شاهد «صور شعبية» لحظة اشعاع معرفي ، وارتباط بتاريخ وتراث السودان.. عن هذه المحبة والرفقة قال لي مرة طارق: :
عندما كنا في المكنية عاصمة العمراب، نبحث عن ودليل أحد شيوخ النساخ في زمن بعيد وصفه الشاعر وهو يتغزل في محبوبته.
كاتلاني عندي عليك دليل/ كُست لماك مالقيت دليل/ عينيك صاد ودليل
فالمكنية – قرية سودانية – عند الطيب حاضرة للعلم والمعرفة ، ازدهرت فيها بيوت النساخ والخطاطين الذي عنوا بكتابة المصحف تحج اليها القوافل من دنقلا و سنار و كردفان تحمل المؤن والزاد للنساخ وتصل في وقتٍ كافٍ من شهر الصيام فشرط النساخ وكتابة المصحف الصوم والطهارة.
ندخل البيوت لنتعرف على الورق الذي كان يستخدم والعمار والشرافة وكيف تحفظ الألوان ثم التجليد ، الفاخر ، بأيدي الصناع المهرة لا يستعصى شئ على الطيب فهو الأمين على كل شئ، اندر المخطوطات من النفائس تعرض أمامه في لحظات ليقدمها الى الكاميرا موثقة بشهادات أصحابها الذين توارثوها جيلا بعد جيل.
ففي احدى رحلات الصور الشعبية وبرفقتنا الأستاذ حسن حسين مدير الهيئة القومية للاثار والمتاحف والجميع في لهفة لمعرفة التراث والمقتنيات التي توزعت بين الأسر والأبناء والأحفاد كل يحاول أن يحميها بطريقته الخاصة ، تحدث الأستاذ حسن حسين عن أهمية تراث الأسر والبيوت في السودان أهمية حفظه بطريقة علمية يحفظه من عوادي الزمن.
وفي محطات الطريق، ما أن يبدو الطيب بثوبه الناصع البياض وعمامته المحكرة في أناقة الهمباتة حتى يهل اهل السودان الأصلاء ، اهلا شيخ الطيب اهلاً ، يا استاذ / مرحب/ اتفضلوا، على البيت ، لم أجد شخصاً وجد هذه الحفاوة والتقدير عند السودانيين مثل الطيب محمد الطيب «المشكلة دائما في المُخارجة» – أي كيفية الإعتذار ، يرد الطيب بابتسامته الهادئة: مرحب مرحب سواء كنا في بحر ابيض ، او بحر ازرق، او دار الريح ، او دار صباح ، ودائما هناك مهمة انتاج ، اربع او خمس حلقات من صور شعبية في مدى زمن المأمورية المحدد.
وتظل فنون التراث الشفاهي جسراً لا يصدق من الماضي البعيد، لا يسأل أحد عن ميزانية الإنتاج او فاتورة الفندق او نثرية الجاز وحوافز المنشدين والمغنيين، كم ستكلف إنتاج حلقات صور شعبية لو لم يكن هناك الطيب محمد الطيب ، نحن في حضرة اهل السودان وكفي».
بعد أن أخرج فريجون أكثر من ثلاثين فيلماً وثائقياً وتسجيلياً في مناطق السودان المختلفة في دارفور مثلا صور في وادي كجا بفروعه «باري ازوم، التي تخترق غرب دارفور.. ووادي كجا والذي يعتبر ملهماً لكل المبدعين الذين زاروه ، صور وابدع وتعرض للمخاطر.. هو وفريق عمله.. لان الأدوات التي يعمل بها لا تجعل المخرج والمصور في مأمن من افتراس الحيوانات المراد تصويرها .. فلقد تعرض فريقه الى هجوم شرس من قبل اسد.. كاد ان يفترسهم .. رغم هذه المخاطر، والتجربة الإبداعية الطويلة الممتدة والتي جاءت بمبادرات فردية حركها الهم والإهتمام بتاريخ وجغرافيا وتراث السودان.. توقف طارق او غابت أفلامه, لتحل محلها افلام وثائقية تجمل وجه السلطات السودانية, التي احتكرت الاعلام المرئي, وابعدت المبدعين المناهضين لمشاريعها الثقافية والسياسية, فاصبحوا بلا عمل, ففكر بعضهم في الهجرة, واصر اخرون على البقاء بالداخل, ومن ضمنهم المخرج طارق فريجون الذي مات بسبب الحسرة والاهمال , فقد عمله في التلفزيون القومي بسبب انتمائه السياسي, واصبح بلا وظيفة لأكثر من 15 عاماً, ما سبب له حزناً بالغاً, ولم يعد متوفراً للذين يبحثون عنه, الى أن نعاه الناعي