التحليل الأدبي
تقول الشاعرة آمال عوّاد رضوان في المقطع الأول: “طَعْمُكِ مُفْعَمٌ بِعِطْرِ الآلِهَة/ كُؤُوسُ ذِكْرَاكِ/ حَطَّمَتْنِي عَلَى شِفَاهِ فَرَحٍ/ لَمْ يَنْسَ طَعْمَكِ الْمُفْعَمَ بِعِطْرِ الآلِهَة/ وَأَنَا/ مَا فَتِئْتُ خَيْطًا مُعَلّقًا بِفَضَاءِ عَيْنَيْكِ/ ما نَضُبَتْ عَلاَئِقِي الْوَرْدِيَّةُ مِنْكِ/ وَلاَ مِنْ نُضْرَةِ سَمَاوَاتٍ مُرَصَّعَةٍ بِانْثِيَالاَتِكِ اللاَّزُورْدِيَّة!/ حقولُ شَقَاوَتِي .. تَهَالَكَتْ عَلَى وَصْلِ غَيْثِكِ/ كَمْ تَاقَتْ تَخْضَرُّ .. بَيْنَ ثَرْثَرَةِ أَنَامِلِكِ/ وَكَمِ اسْتَغَاثَتْ/ أَنِ اجْبِلِيها بِعَصَا خُلُودِكِ عَصَافِيرَ نَدِيَّةً/ تَرْتَسِمُ دَيْمُومَةَ لَوْعَةٍ .. بِضَوْءِ عُهْدَتِكِ الْعَصِيَّة!”
“طَعْمُكِ مُفْعَمٌ بِعِطْرِ الآلِهَة”/ للشاعرة آمال عوّاد رضوان
العنوان: “طَعْمُكِ مُفْعَمٌ بِعِطْرِ الآلِهَة“: يتكوّنُ مِن جُملةٍ اسميّةٍ وجارٍ ومجرور ومُضافٍ ومضاف إليه، والمخاطبُ هنا السيّدة العذراء، وهي فلسطينيّةُ الموْلد في أرض الوطن، فللوطنِ وللدّين قداستُهما عندَ الشاعرة، فهما الهُويّةُ ونبضُ الرّوح، وتصفُ الشاعرةُ طعمَ الوطنِ والسيّدةَ العذراءَ بعطرِ رائحةِ الآلهةِ قداسةً، والشاعرةُ تُجري تبادُلًا وتراسُلًا بينَ مُعطياتِ الحواسّ على طريقةِ الرمزيّين، أمّا المقصودُ بتراسُلِ الحواسّ فهو: أن يُوصِلَ الشاعرُ دلالاتٍ مُبتكَرةً مِن خلالِ تَبادُلِ مُعطياتِ الحواسّ وتَراسُلِها، كأنْ يَستخدِمَ حاسّةَ اللّمسِ لِما يَقتضيهِ السّمع، وهو ما يعني أن يَشمَّ الشّاعرُ مِن خلالِ حاسّةِ السّمع، أو يَتذوّقَ بحاسّةِ البَصر، أو يرى بحاسّةِ اللّمس، وكلّ حاسّةٍ مِنَ الحواسّ الخمس تؤدّي وظيفةً حاسّةً أخرى بدلًا عنها، ويَتحَقّقُ التأثيرُ ذاتُهُ الذي يُمكنُ للمخّ البَشريّ أن يتلقّاهُ مِن أيّةِ حاسّةٍ، وبطبيعةِ الحال؛ فإنّ ذلك لا يَتحقّقُ في عالم الحقيقة، بل في عالم الخيالِ والتصوُّر الفنّيّ؛ فالطّعمُ وهو خاصٌّ بحاسّةِ الذوْق قد أجرته وأخضعته شاعرتنا لحاسّة الشّمّ.
“كُؤُوسُ ذِكْرَاكِ/ حَطَّمَتْنِي عَلَى شِفَاهِ فَرَحٍ/ لَمْ يَنْسَ طَعْمَكِ الْمُفْعَمَ بِعِطْرِ الآلِهَة”: للذّكرى كؤوسٌ تُحطّم، وللفرحِ شفاهٌ تبتسمُ، وكؤوسُ الذكرى لا تُنسى، وللوطنِ طعمٌ. صورٌ شعريّةٌ تتوالى وتتزاحَمُ، وكل السطور كنايةً عن محنةِ الوطن وتأسّي الشاعرة، مُبدِية قداستَهُ عندها.
وَأَنَا/ مَا فَتِئْتُ خَيْطًا مُعَلّقًا بِفَضَاءِ عَيْنَيْكِ/ ما نَضُبَتْ عَلاَئِقِي الْوَرْدِيَّةُ مِنْكِ/ وَلاَ/ مِنْ نُضْرَةِ سَمَاوَاتٍ مُرَصَّعَةٍ.. بِانْثِيَالاَتِكِ اللاَّزُورْدِيَّة!”:
وتستمرُّ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان في سطورِها مُستخدِمةً الأسلوبَ الخبريّ؛ لتأكيدِ الذاتِ وتبيانِ هوْلِ المأساة، والسطورُ هذه كنايةً عن تعلُّقِ الشاعرة بالوطن، وربْطِهِ بالسيّدةِ العذراء وبمَدى عشقِهما لذرّاته، وتُشبّهُ الشاعرة نفسَها بالخيطِ المُعلّقِ بفضاءِ عيني الوطن، أو إن شئت بعيني السيّدة العذراء بنت الوطن، وللوطنِ عيونٌ كما الإنسان، وتُوظّفُ الشاعرةُ الألوانَ، ليكتسيَ النصُّ بدلالاتٍ جميلة، واللونُ في الشعرِ يحتلُّ فضاءً بالغَ الأهمّيّة لِما له مِن بُعدٍ دلاليّ، فالتوظيفُ الفنّيُّ للّونِ قد يَنطلقُ مِن مَرجعيّاتٍ معرفيّةٍ، أو مِنَ اللّاوعي المعرفيّ للشاعرة، فقد استخدمَت الشاعرةُ اللونَ للتّعبيرِ عن الحالةِ النفسيّةِ المُراد إيصالها للمتلقّي، أو لرسم صورة شعريّةٍ بالألوان، فالشعرُ رسمٌ مُعبّرٌ وناطق، فالورد لونُهُ أحمرُ، والأحمرُ رمز، وإذا تحوّلنا إلى اللونِ الأحمرِ، وجدنا الشاعرةَ تستخدمُهُ لتُعبّرَ بهِ عن العواطفِ والحياةِ والحبّ، والشاعرةُ تتغزّلُ بانثيالاتِ السماءِ باللونِ الأزرق- اللازوردي، وفي السطر التالي تَذكُرُ الشاعرةُ الخضرة؛ وذلك لتأثيرِ المكان على الشاعرة، ولخلقِ لوحةٍ فنّيّةٍ مُتناسقة، ولكن هذا الجمالَ أفقدَهُ الواقعُ الاحتلاليُّ بهجتَهُ ونضارتَهُ.
“حقولُ شَقَاوَتِي تَهَالَكَتْ عَلَى وَصْلِ غَيْثِكِ/ كَمْ تَاقَتْ تَخْضَرُّ بَيْنَ ثَرْثَرَةِ أَنَامِلِكِ/ وَكَمِ اسْتَغَاثَتْ/ أَنِ اجْبِلِيها بِعَصَا خُلُودِكِ عَصَافِيرَ نَدِيَّةً/ تَرْتَسِمُ دَيْمُومَةَ لَوْعَةٍ .. بِضَوْءِ عُهْدَتِكِ الْعَصِيَّة!”:
الخطابُ مُوجّهٌ للسيّدةِ العذراء بنتِ الوطن ونبْضِه، وللشّقاوةِ حقولٌ تتهالكُ وتتوقُ للثرثرة، وتستغيثُ وتنطقُ وتتكلّمُ وتتهالكُ أمامَ عيني بنت الوطن، وأمامَ الوطن الذي فقدَ جماليّتَهُ، وتذكرُ الشاعرةُ “العينين” وهما الجزء، وتريد به الوطنَ “الكل” مجاز مُرسل علاقته الجزئيّة، وللوطنِ الأخضرِ الجميلِ أنامل، وقد ذكرت الشاعرة “الأنامل” وأرادت بهِ الكلّ، وهو أيضًا مجازٌ مرسل علاقته الجزئيّة، وهنا تتسلسلُ الشاعرة في هندسةِ بناءِ صورٍ جزئيّة، انتقالًا لخلقِ صورٍ مَشهديّةٍ، وصولًا لابتداع لوحةٍ فنّيّةٍ مُتكاملةٍ في هندستِها وبنائِها الفنّيّ، وتُكرّرُ الشاعرة “كم” الخبريّة التي تعني بها “الكثير” والتكرار تأكيد، ويُعَدُّ مِن الظواهر الأسلوبيّةِ التي تُستخدَمُ لفهم النصّ الأدبيّ، ولا يقومُ فقط على مجرّد تكرار اللفظة في السّياق، وإنّما ما تتركُهُ هذه اللفظة مِن أثرٍ انفعاليٍّ في نفسِ المُتلقّي، ويعكسُ جانبًا مِن الموقفِ النفسيّ والانفعاليّ، ومثلُ هذا الجانب يحملُ في ثناياهُ دلالاتٍ نفسيّةً وانفعاليّة مختلفة تفرضُها طبيعةُ السياق، والتكرارُ يُمثلُ إحدى الأدواتِ الجماليّة التي تساعد على فهم مَشهدٍ، صورةٍ أو موقفٍ ما، كما أنّ له وظيفته الإيقاعيّة، وتستمرُّ الشاعرة في تنوُّعِ مَشاهدِهِ الفنّيّة، فالحقولُ تخضرُّ بين ثرثرةِ أناملِ المحبوب (الوطن)، وتستغيثُ الشاعرة كثيرًا بالسيّدة العذراء، لتُعينَنا على تحريرِهِ ليُجبَلَ ويَزخرَ بعصافيرِ الحرّيّة، فللخلودِ والبقاءِ عصا تُجبلُ بلحنِ الخلودِ والتحرّر.
وتُوظّفُ خاصّيّةَ التناصّ في قوْلها “أَنِ اجْبِلِيها بِعَصَا خُلُودِكِ عَصَافِيرَ نَدِيَّةً”، والعصا هي عصا موسى التي ضربَها في البحر الأحمر، بعدَ خروج اليهود من مصر؛ للعودة إلى أرض كنعان، لكنّهم تاهوا في صحراء سيناء عقابًا لهم من الله، حين ضلّوا عن طريق الإيمان وعبدوا الأوثان، والظاهرةُ التناصيّة ذاتها، نجدُها مُهيمنةً في قصيدة شاعرتنا، فالقصيدةُ اعتمدتْ بُنيةً تراثيّةً مُغرقةً في شِعريّتها التراثيّة، سواء تعلّقت الدفقاتُ بالشخوص، أم بالأماكن أم بالوقائع، وهذا التناص من نوع التناص القرآنيّ، فهو ممتدٌّ بإيحاءاتِهِ وظِلّهِ على النصّ الأدبيّ، لنلمح جزءًا من قصّةٍ قرآنيّة، أو عبارةٍ قرآنيّة أدخلتها الشاعرة في سياق نصّها . “وهذا التناص غير المباشر ينضوي تحته التلميح والتلويح والإيماء، والمجاز والرمز، وهو عمليّة شعوريّة يستنتجُ الأديب من النصّ المتداخل معه أفكارًا معيّنة، يومئ بها ويرمز إليها في نصّه الجديد(1).
فتقول الشاعرة آمال: “مُهْرَةَ رُوحِي الْحَافِيَة/ أَلاَ هُزِّي عَتْمَةَ وَجْهِي الذَّاوِيَة/ سَرِّحِيهَا نَوْرانِيَّةَ عَدَالَةٍ فِي مَسَامَاتِ جِهَاتِ مَوازينِكِ/ عَلَّنِي أَنْغَمِسُ بِكِ خُبْزَ بَرَاءَة.
وفي السطر الأوّلِ انزياحٌ بالحذف، حيث حذفت الشاعرة حرفَ النداء، والتقدير: “يا مُهْرَةَ رُوحِي الْحَافِيَة“: وترمز الشاعرة بمهرة الروح بمدينة بيت لحم، حيث ولد السيد المسيح، ومن خلال سورة مريم تخاطب الشاعرة المدينة، والسيدة مريم العذراء شفيعة ونصيرة المؤمنين.
وتتزاحمُ الصورُ الشعريّةُ وتتوالى الانزياحاتُ المختلفة، فللرّوح مُهرةٌ والمهرةُ حافية، وتهزّ جذعَ النخلة، ولها جهاتٌ وللجهاتِ موازينُ تزنُ بها، وللوجهِ عتمةٌ وللخبز براءة! ولنتوقف قليلا عند التناص الدينيّ المتمثل في قول الشاعرة: “أَلاَ هُزِّي عَتْمَةَ وَجْهِي الذَّاوِيَة“، وهو تناص يتقاطعُ مع قوله تعالى في سورة مريم: “وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا* فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا، فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا”. الشاعرة هنا ترمز لولادة الفلسطينيّ الجديدة بعدَ مخاضٍ عسير ، فالمُتتبّعُ لمفردات شاعرتنا آمال وألفاظِها، يجزمُ بأنها تستفيدُ كثيرًا من ألفاظِها القرآنية، حتى لتصلَ بألفاظها حدّ التطابقَ معَ ألفاظِهِ، إنّها تتواصلُ مع قاموسٍ قرآنيّ يقتحمُ بهِ عالمَها الشعريّ، وتنفُذُ من خلاله إلى أعماقِ الحرفِ العربيّ وإيقاعِهِ وبُنيتِهِ اللغويّة، ممّا يدفع إلى الاعتقاد، بأنّ الشاعرةَ كإنسانةٍ مُغرمةٍ بالقرآن، ومُعجبةٍ ببيانِهِ وفصاحتِهِ، حاملة في الوقتِ نفسِهِ هذه الصورة إلى المتلقي لدفعِهِ باتّجاهِها، أو حمله على التوافق معًا، ومِن ثم إلى الانحياز إليها.
إنّها تُذكّرُنا دائمًا بالمفردة القرآنيّة؛ بجِرسِها وإيقاعِها ودلالتِها، وإنّ القارئ لشِعرِها يُبحرُ معها في عالمٍ مِن صُنع القرآن وتأثيرِهِ، وتهتمّ بالتناص المعنويّ، حيث تبدو شاعرتنا منقادةً في رحاب المعنى، بشكلٍ ملحوظ، للقرآن أو إليه، وواقفة تحت تأثيره المباشر، فلا تكادُ تخلو أجزاءُ هذه القصيدة من هذا التناص، وهي في ذلك تكشفُ التزامًا بفكرة الدين، التي تتمثل بالتحريض على التمثل بالقيم والأخلاقيّات والفضائل؛ والتنفير من المقابل السلبيّ لها، والتي بمقتضاها تقيسُ حجمَ الالتزام ومَداه.
“سَرِّحِيهَا نَوْرانِيَّةَ عَدَالَةٍ/ فِي مَسَامَاتِ جِهَاتِ مَوازينِكِ”: كنايةً عن أحلام الشاعرة بالحرّيّة والعدالة في ظلّ عالم ومحيطٍ يعملُ بمكيالين.
“عَلَّنِي أَنْغَمِسُ بِكِ خُبْزَ بَرَاءَة”: ويستمر الخطاب موجه للمدينة المقدسة بيت لحم، و”الخبز” رمز للخبز الذي باركه السيد المسيح، خمسة أرغفة باركها على ضفاف بحيرة طبريا وأطعم منها آلاف التابعين له- وأيضا، وهو رمز أيضا للخبز المغموس بالنبيذ في خدمة القداس والذي يرمز لجسد المسيح المصلوب ولدمه المسفوك. وهذا يدل على الإخوة التي يحتفل بها المؤمنون في عشاء المحبة وكسر الخبز، ومن هنا تكمن أهمّيّة البحث في وقائع النصّ الإنجيليّ وأبعاده. والدلالة الرمزيّة هنا تُذكّرنا بمحنة الفلسطينيّين وتأسّيهم، حيث تربطهم المشاركة الوجدانيّة والفعليّة في السرّاء والضرّاء.
وفي السطر تناص ديني يتقاطع مع النص الإنجيلي: “فرَفَعَ يسوعُ عَينَيه، فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلاً إِلَيه فقالَ لِفيلِبُّس: مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هؤلاء؟”: النصّ الإنجيليّ (يوحنا 6: 1-15) إنّ الإبداعَ أو الأصالة “لا تنحصرُ في ابتكار أفكارٍ جديدة، بقدر ما تنحصرُ في التأليف بين أفكارٍ قديمة، أو إدخال بعض التعديلات على ما انحدر إليه من طرز فنيّة قديمة”(2)
وتستمرّ الشاعرة آمال في شدوها: “لاَ تُقْصِينِي أَيَا طُوفَانِيَ الْمُشْتَهَى/ نَوَافِيرُ فَرَارِكِ فَجَّرَتْ ضَوْئِيَ اللَّيْلَكِيّ/ طَاغِيَةَ الْحُمْرَةِ بَاتَتْ شَهْقَاتُ خَيَالِي الْكَافِرِ/ كَجَذْوَةٍ مُجَمَرَّةٍ غَدَتْ خَفَقَاتِي!”.
“لاَ تُقْصِينِي أَيَا طُوفَانِيَ الْمُشْتَهَى “: وهنا توظف الشاعرة أسطورة الطوفان القديمة والموت، لطوفان آخر يتمثل في طوفان الحياة والولادة الجديدة في فلسطين والعالم العربيّ، فلم يغمر الطوفان فلسطين يومًا كما يغمرُها اليوم، ورغم ذلك، فمن المستحيل إخضاع الناس واستعبادهم، مهما اشتدّ عسف الحاكم وجنونه. ويقول ميخائيل باكونين الثائر الروسي الأشهر، بأنّ البشر، كلّ البشر، في كلّ مكان وزمان، يتمتّعون بغريزةٍ أصيلةٍ هي غريزة الحرّيّة. لا يستطيع أيّ نظام طغيانٍ أن يقضي عليها، حتى لو خنع الناس مضطرّين لفترات طويلة.
لقد توافرت حيثيات الرموز في نتاج الشعراء الحداثيّين ولا سيّما الفلسطينيّين، الذين عادوا إلى الرموز الدينيّة والتراث الشعبيّ، فحمّلوهُ بُعدَهم الوطنيّ السياسيّ، بسبب جذورهم، وشعورهم بأنّ هذا التراث هو تراثهم، ومن هؤلاء شاعرتنا آمال عوّاد رضوان التي غرفت من النصوص الدينيّة والتراث الشعبيّ، واستحضرته في شعرها كرمزٍ يُعبّر عن موقفها من الواقع، وكمُعادلٍ موضوعيّ لِما تشعر به. و”تنبع أهمّيّة توظيف الأسطورة والرموز الأسطوريّة في القصيدة الحديثة، من كون الرمز يُشكّل صورة حسِّية مولّدة للمعنى ومسكونة به. ويكشف استدعاء الأسطورة أو الرمز الأسطوريّ عن قيمة الوظيفة الدلاليّة والجماليّة، التي يُحقّقها الرمز في سياق النصّ الشعريّ، سواءً جاء هذا الاستدعاء في جزء من القصيدة، أو استغرقها كلها، لأنه (عندما يتجاوز الشاعر مستوى مجرّد ذكر الأسطورة أو الرمز الأسطوريّ، إلى مستوى الاستلهام والاستحياء والتوظيف، من خلال خلق سياقٍ خاصّ يُجسّدُ تفاعلَ الأسطورة مع التجربة الشعريّة.) (3)
“نَوَافِيرُ فَرَارِكِ فَجَّرَتْ ضَوْئِيَ اللَّيْلَكِيّ”: وهنا تتوالى الانزياحات، ففي عبارات السطر ثلاثة انزياحات: “نَوَافِيرُ فَرَارِكِ”، فالسامع عندما يسمع كلمة “نَوَافِيرُ” يتوقع أن تليها كلمة “الماء” مثلا، وفي عبارة “فَجَّرَتْ ضَوْئِيَ” انزياح ثانٍ، فالسامع عندما يسمع كلمة “تفجرت” يتوقع أن تليها كلمة “الأزمة” مثلا، وعندما يسمع كلمة “ضوئي” يتوقع أن تليها كلمة “المنير” مثلا، لكنه يتفاجأ بسماعه كلمة “اللَّيْلَكِيّ”،وهذه الانزياحات تولد الإثارة في نفس المتلقي.
“طَاغِيَةَ الْحُمْرَةِ بَاتَتْ شَهْقَاتُ خَيَالِي الْكَافِرِ”: والحمرة هنا رمزٌ لتغيّر ملامح الوجه، تأثّرًا لهول ما يحصل في فلسطين والأرض العربيّة مِن فِتنٍ ودمارٍ وخراب، وللخيال شهقاتٌ طاغية كافرة! انزياحاتٌ وصورٌ فنّيّة مُتتابعة. ونستطيع أن نجزم بيقين لا يُخالجه شكّ أو تُخامرُهُ ريبة، أنّ الصورة الشعريّة هي”جوهر الشعر وأداته القادرة على الخلق والابتكار، والتحوير والتعديل لأجزاء الواقع، بل اللغة القادرة على استكناه جوهر التجربة الشعريّة، وتشكيل موقف الشاعر من الواقع، وفق إدراكه الجماليّ الخاصّ. ولعلّ ممّا لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر، أنّ الصورةَ الشعريّة ليست شيئًا طارئًا، بل وُجدت منذ أن وُجد الشعر على ظهر البسيطة، ولكنّها تختلف وتتفاوت بين شاعر وآخر، كما أنّ ملامحَ الصورة تتنوّع بتنوّع اللغات والمجتمعات، وأصحابُ المَلكات الشعريّة هم الذين لم يتركوا شيئًا إلّا وسدّدوا إليه سهامهم، وأضفَوْا عليه قبَسًا من حمم قريحتهم المُلتهبة، وخلعوا عليه من أحاسيسهم المرهفة وخيالهم الخصب وميضًا يُبدّدُ عتمةَ الحياة، وميضًا يمسحُ الكرى عن الجفون، والقذى عن العيون، ويُبصّرُ أصحابَ الخاطرِ المكدود، الذين يُكابدون غصصَ الحرمان، بمواطن الحُسن ومنازل الجَمال على قلّتها وضآلتها، حتّى يتقلّبوا في أعطافها وينالوا من ألطافها، تلك المواطن التي يمرّ عليها أصحابُ الجفن القريح والجرح الدامي، دون أن ينبسوا ببنت شفة في الإفصاح عنها، فكثيرٌ من الأشياء المألوفة تناولها الشعراء، فصوّروها بأقلامهم تصويرًا يجعلنا نحسّ بجدّة هذه الأشياء كلّما قرأنا صورهم، وكأنّ هذه الأشياء المألوفة نعرفها لأوّل مرّة، الأمر الذي قاد النقاد للقول، بأنّ أكثر الصور إمتاعًا هي التي تكون الصورة الشعريّة فيها حاضرة في أذهان معظم الناس، ورغم أنّ المعاني عامّة لدى جميع الناس ومنهم الشعراء، ولكن العبرة في مدى قدرة الشاعر على صوغ هذه المعاني في ألفاظ، وقدرته على تصويرها.” (4)
“كَجَذْوَةٍ مُجَمَرَّةٍ غَدَتْ خَفَقَاتِي!”: تُشبّهُ تلك الخفقاتِ بموقدةِ نارٍ مُجمّرة لهول المَصاب. وتستمر في قصيدتها قائلة: “ثَنَايَا انْكِسَارَاتِي/ مَا فَتِئَتْ تُؤْنِسُنِي بِصَوْتِكِ الْمُتَهَجِّدِ/ حُضُورُكِ.. مَا انْفَكَّ يُبْهِرُنِي صُدَاحُهُ/ يَجْلِبُ لِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ الْمَطَرَ/ يَجْعَلُنِي أَذْرِفُ كُلَّ عَنَادِلَ لِبْلاَبِي/ مَنْ يُنْجِدُنِي مِنْ سَطْوَةِ صَوْتِكِ/ حِينَ تفْتَحُ لِي غِرْنَاطَةُ السَّمَاء؟/ أَو حِينَ أَنْهَمِرُ غُيُومًا عَلَى كُلِّ مَوْجَةٍ/ تَنْدَاحُ مِنْ شَفَتَيْكِ “حَيَاتِي”؟/ أنَّى تَعْتَلِينَ مَوْجَةَ ذُهُولِي الْخَرْسَاءَ/ فَأَخْلُصُ مِنْ آثَامِي؟“
“ثَنَايَا انْكِسَارَاتِي/ مَا فَتِئَتْ تُؤْنِسُنِي بِصَوْتِكِ الْمُتَهَجِّدِ“: كنايةً عن الانكساراتِ والنكساتِ والتشظّيات والانقسامات التي أصابت الأمّة وعصفت بالوطن، فالشاعرة لم تفقد الأمل بولادته وخلوده والعودة لأحضانه.
“حُضُورُكِ.. مَا انْفَكَّ يُبْهِرُنِي صُدَاحُهُ/ يَجْلِبُ لِي مِنْ كُلِّ فَجٍّ الْمَطَرَ”: كنايةً عن أنّ للحضور الدينيّ وللعذراء وقعًا مريحًا على قلب الشاعرة، بانزياح الغُمّة واندحار عدوّ الأمّة عن الوطن.
“يَجْعَلُنِي أَذْرِفُ كُلَّ عَنَادِلَ لِبْلاَبِي”: وعنادل جمع عندليب، وغناء العندليب : مثلٌ يُضرَب في الملاحة والطِّيب، والبلابل رمز للجمال.
“مَنْ يُنْجِدُنِي مِنْ سَطْوَةِ صَوْتِكِ/ حِينَ تفْتَحُ لِي غِرْنَاطَةُ السَّمَاء؟”: تنتقل الشاعرة للأسلوب الطلبيّ والاستفهام يفيد الاستنكار؛ أي لا أحد ينقذ روح الشاعرة من شدة الفرح عندما تزول الغمة ويتحرر الوطن، ولا زال الخطاب موجها للسيدة العذراء، وهنا تتناول الشاعرة شكلا مهما من أشكال التناص يتركز حول التناص التاريخي والحضاري، وتراوح بين استدعاء الأحداث التراثية الدينية، أو استدعاء للرمزية التي تمتد لها، شكلت مفاصل عندها في التاريخ الإسلامي. إذ لم يقتصر على القرآن في المحاكاة والاستفادة والتوظيف وإنما أدخلت التاريخ الإسلامي في الأندلس والمعالم الحضارية في شعرها وجعلت لها مكانة مرموزة وموحية، في محاولة منها لإعادة قراءة التاريخ، ومن ثم توظيفه بصورة انتقائية هادفة، غالبا ما ترى فيها تجسيدا لمواقف بطولية ترسم منهجا واضحا لقانون القيم الدينية والأخلاق الموافق منها والمعارض على حد السواء.
“أَو حِينَ أَنْهَمِرُ غُيُومًا عَلَى كُلِّ مَوْجَةٍ”: كناية عن الخير المرافق للانتصارات.
“تَنْدَاحُ مِنْ شَفَتَيْكِ “حَيَاتِي”؟ : الفم بشفتيه وشقيه يرمزان إلى وحدة شطري فلسطين بكاملها الداخل والضفة وتحلم بأن يلتمّ الشمل وتعود الحياة وتسري الأنفاس والدماء في شرايينها. ويذكر الناقد الفرنسي رولان بارت إلى أن الكلام كله: ”سالفه وحاضره، يصبُ في النص، ولكن ليس وفق طريقة متدرجة معلومة، ولا بمحاكاة إرادية، وإنما وفق طريق متشعبة، صورةٌ تمنح النص وضع الإنتاجية، وليس إعادة الإنتاج “(5)
“أنَّى تَعْتَلِينَ مَوْجَةَ ذُهُولِي الْخَرْسَاءَ”: والشاعرة هنا توظف مرة أخرى الأسلوب الطلبي، والاستفهام يفيد التعجب، فالشاعرة كما الخرساء من هول ما أصيبت به فلسطين من نكبات علما بأن الفلسطيني لم يرتكب الآثام والخطايا ليتخلص من الآثام.
“فَأَخْلُصُ مِنْ آثَامِي؟”: توظف الموروث الدينيّ، حيث أتى السيد المسيح ليخلص البشريّة من خطاياها وآثامها، وكأني بها تتساءل: ما هي آثام الفلسطينيّ التي يدفع أثمانها تهجيرا واحتلالا وعذابا؟ متى وكيف يخلص من آثامه؟ هل هو كافر؟ لا بل أنا ما كنت لاهيا…). يرى د. صبري حافظ ”أن التناص هو الذي يَهَبُ النص قيمته ومعناه . ليس فقط؛ لأنه يضع النص ضمن سياق يمكننا من فض مغاليق نظامه الإشاري، ويَهَبُ إشاراته وخريطة علاقاته معناها، ولكن أيضًا؛ لأنه هو الذي يمكننا من طرح مجموعة من التوقعات عندما نواجه نصاً ما، واستجلاب أفق للتلقي نتعامل به معه. وما يلبث هذا النص أن يشبع بعض هذه التوقعات”(6).
وتقول الشاعرة: “أَنَا مَنْ جِئْتُكَ مَوْلُودًا بِلاَ حُجُبٍ وَلاَ أَقْنِعَة/ مَا كُنْتُ لاَهِيًا عَنْ نَقَاءٍ عَبَّدَ الْقُلُوبَ بِطُهْرِكِ/ وَنَفَضَ عَنِّي كُلَّ عَرَائِي!/ تَمَرُّدُ خَفْقَتِي الْمَهْوُوسَةِ لاَ تَلْجُمِيهَا/ لا تُحِيلِينِي وَطَنًا مُثْقَلاً بِالْمَنَاقِيرِ/ أَبَدًا/ مَنَاقِيرِي مَا خَنَعَتْ لِدَسَاتِيرِ هُرَائِهِم!”
تستمر تخاطب السيدة العذراء: “أَنَا مَنْ جِئْتُكَ مَوْلُودًا بِلاَ حُجُبٍ وَلاَ أَقْنِعَة“: كناية عن مولد الشاعرة في موطنها، دون القدوم من الخارج والاستيطان فيه بحجج وأباطيل وزيف وخداع المحتل، والخطاب مُوجّهٌ للوطن المتمثل في المدينة المقدّسة، والسيدة العذراء بنت فلسطين.
“مَا كُنْتُ لاَهِيًا عَنْ نَقَاءٍ عَبَّدَ الْقُلُوبَ بِطُهْرِكِ/ وَنَفَضَ عَنِّي كُلَّ عَرَائِي!: كناية عن اقتناع الشاعرة بطهر ونقاء الوطن المسلوب، ونلحظ الصور الأدبيّة، فشبّهت الشاعرة النقاءَ بعاملٍ يُعَبّد، كما شبّهت القلوبَ بطريق تُعبَّد..استعارتان مكنيّتان في كلّ، ترسمان لصور فنّيّة جزئيّة.
“تَمَرُّدُ خَفْقَتِي الْمَهْوُوسَةِ لاَ تَلْجُمِيهَا”: كنايةً عن تمرّد الفلسطينيّ وتوقهِ للانعتاق والتحرّر.
لا تُحِيلِينِي وَطَنًا مُثْقَلاً بِالْمَنَاقِيرِ/ أَبَدًا/ مَنَاقِيرِي مَا خَنَعَتْ لِدَسَاتِيرِ هُرَائِهِم!“: كنايةً في كلّ عن رفض الشاعرة لكلّ محتلّ تدوسُ قدماه الوطن، ويُلحقُ به الأذى والضيم والاستبداد والسلب.
وتستمرّ الشاعرة مخاطبة الوطن المتمثل في المدينة المقدّسة ومريم العذراء: “عَلَى أَوْتَارِ “حَيَاتِي/ عَزَفْتُ هَيْكَلَكِ الْمُنِيفِ بِكِ ضَوْءًا أَزَلِيًّا لاَ يَنْضُبُ/ نَصَّبْتُكِ عَلَى عَرْشِ عَتْمَتِي/ لِيَسْتَدِلَّ بِخُشُوعِكِ خُشُوعِي/ حُنْجَرَتِي الْمَاسِيَّةُ ذَابَتْ مَزَامِيرَ اسْتِغْفَارٍ/ عَلَى امْتِدَادِ جَذْوَتِكِ!/ كَانَ ابْتِهَالِي أَعْمَقَ عَبَقًا حِينَ حَضَرَ رُوُاؤُهُ جِرَارًا/ يَتَهَجَّى قِرَاءَاتِهِ فِي مَحَارِيبِ حَنَانِكِ!”
فللحياة أوتارٌ تعزفُ عليها الشاعرة نشيدَها، كما يعزف المغني على أوتار عود الطرب، وشبهت الشاعرة نفسَها بعازفٍ، والهيكلَ بمعزوف، والعزفَ ضوءًا أزليّا يُبدّدُ ظلمةَ روح معاناة الشاعرة، بما تُحسّ وترى في الوطن الذبيح، وللعتمة عرشٌ كما للملوك. صورٌ شعريّةٌ ترسمُ لوحةً جميلة متناسقة في هندستها.
“عَزَفْتُ هَيْكَلَكِ الْمُنِيفِ بِكِ.. ضَوْءًا أَزَلِيًّا لاَ يَنْضُبُ”: والهيكلُ المنيفُ رمزٌ لدورِ العبادة والرسالاتِ، وللخارطة الأزليّة والوجدانيّة لفلسطين.
وتقول: “حُنْجَرَتِي الْمَاسِيَّةُ ذَابَتْ مَزَامِيرَ اسْتِغْفَارٍ/ عَلَى امْتِدَادِ جَذْوَتِكِ!/ كَانَ ابْتِهَالِي أَعْمَقَ عَبَقًا حِينَ حَضَرَ رُوُاؤُهُ جِرَارًا/ يَتَهَجَّى قِرَاءَاتِهِ فِي مَحَارِيبِ حَنَانِكِ!”: كنايةً في كلٍّ عن حبّ الشاعرة للدين وللوطن، وتفانيها فيه وتوحُّدها معه، وتتابع الانزياحات والصور الفنية، فحنجرة الشاعرة ماسيّةٌ تذوبُ مزاميرَ عطرٍ حينما يبتهجُ الوطن في جراره، ولحنان الوطن محاريبُ تتبتّلُ فيها الشاعرة خشوعًا وصلاةً في ظلاله.
وتستعمل “كلمة صورة” للدلالة على كلّ ما له صلة بالتعبير الحسّيّ، وتطلق، أحيانًا مرادفة للاستعمال الاستعاريّ للكلمات. والصورة في مجملها تعتبر وسيلة الشاعر والأديب في نقل فكرته وعاطفته معًا إلى قرّائه أو سامعيه، ويُقاس نجاح الصورة في مدى قدرتها على تأدية هذه المهمّة، كما إنّ حكمنا على جمالها أو دقتها يرجع إلى مدى ما استطاعت الصورة أن تُحققه من تَناسُبٍ، بين حالة الفنان الداخليّة وما يُصوّره في الخارج تصويرًا دقيقا خاليًا من الجفوة والتعقيد، فيه روح الأديب وقلبه.” (7)
وفي قولها: “حُنْجَرَتِي الْمَاسِيَّةُ ذَابَتْ مَزَامِيرَ اسْتِغْفَارٍ”: نرى أنّ الشاعرة تغرفُ مِن مَعين الموروث الدينيّ، فتعود إلى قصّة داوود الملك حين ارتكب المعاصي واعتكف وبكى واستغفر، وكتب المزامير (صلوات الاستغفار)، فكأنّي بها تريد أن تقول بأنّ الفلسطينيّ لا يقلّ إيمانًا، فإن كان خاطئا آثمًا فهو مؤمن يستغفر ربه ويصلي ويبتهل، فلا تردي صلاته عليه خائبة قاصرة .
“بَادِلِينِي صَلاَةً تَعْجَزُ عَنْ قَوْلِهَا لُغَةٌ قَاصِرَة!/ هَا طَعْمِي قَدِ اكْتَمَلَ فِي حَضْرَةِ نِيرَانِكِ/ وَدُنُوُّكِ كَفِيلٌ بِإِعَادَتِي متعبِّدًا إِلَى نِصَابِ مَعْبَدِكِ/ لاَ تَقْتَلِعِي أَوْتَادَ جَأْشِي/ فَأَذُوبُ عَلَى مُنْحَنَى وَهْمٍ فِيهِ مَحْوِي”: وهنا تتجسّدُ الشخصيّة الدينيّة مُتّحدة مع المكان المقدّس والوطن الجريح، والخطاب مُوجّهٌ لكلّ، وتوظّف الشاعرة الأسلوبَ الطلبيّ، والأمر يفيد الدعاء أو التمنّي بأن تشارك السيدة العذراء الدعوات والصلوات بنصرة الوطن.
“هَا طَعْمِي قَدِ اكْتَمَلَ فِي حَضْرَةِ نِيرَانِكِ”: كناية عن أنّ الشاعرة تحسّ بالوطن وقداسته متمثلا في السيدة العذراء، وأرض الوطن كاملة غير مجزوءة، فهي تحسُّ بدنوّها واقترابها وبطعمها ورائحتها، حتى في عز الموت والفداء والاستشهاد والعذاب والقتل والحرب.
“وَدُنُوُّكِ كَفِيلٌ بِإِعَادَتِي متعبِّدًا إِلَى نِصَابِ مَعْبَدِكِ/ لاَ تَقْتَلِعِي أَوْتَادَ جَأْشِي/ فَأَذُوبُ عَلَى مُنْحَنَى وَهْمٍ فِيهِ مَحْوِي”: ومازال الخطابُ مُوجّهًا للسيّدة العذراء، فتستهلّه بالأسلوب الخبريّ لتبيان مأساتها والوطن، ثمّ لا تلبث الشاعرة أن تنتقلَ للأسلوب الطلبيّ، والنهي يفيد الدعاء، فالشاعرة تبتهل وتصلي وتدعو العذراء بأن تهبها القوّة والشجاعة، وتدعو بتخليص الوطن من محنته، وبالقبول والرضا والخشوع الرباني.
وتقول: “جَلْبِبِينِي بِظِلِّكِ الأَخْضَرِ حِينَ تَخْلَعُ الأَقْمَارُ قِشْرَتَهَا/ أرْجُوكِ اقْتَرِبِي مِنِّي/ وَانْتَشِلِينِي مِنْ سُدَفِ عَتْمَتِي الْحَدْبَاء!” كناية في كلّ عن حالة الغمّة التي تسيطر على حالة الشاعرة النفسيّة لهول ما ترى في الوطن الجميل الذبيح. وتتوالى أفعال الأمر “جَلْبِبِينِي“، و”وَانْتَشِلِينِي” لتفيد الدعاء في كلّ.
تستمر في أسلوبها الطلبي مرددة: “أ”َتُرَانِي اسْتَسْقَيْتُ رَمَادَ فُؤَادٍ/ تَلَاشَى فِي تَقَاسِيمِ قَفَصٍ جَلِيدِيٍّ؟/ أتِيحِي لِشِفَاهِ لَيْلِي أَنْ تَلْثُمَ مَعْزُوفَاتِكِ”: تتوالى الانزياحات والصور الفنيّة، فللفؤاد رماد يتلاشى كما النار، والرماد يٌستفتى، وللجليد قفص، ولليل الشاعرة شفاه تلثم كما الإنسان! “إنّ الشعر العذب الذي يشنَّف الأسماع، ويُسكر الألباب، ويأخذ بمجامع القلوب، هو الشعر الذي يموج موجًا بالصور الشعريّة الحافلة التي تشكل نواة القصيدة، فالشاعر المتصرّف في فنون الشعر، والذي يتّسم شعره بدقة المعاني، ولطافة التخيّل وملاحة الديباجة، هو الشاعر الذي يدمغ شعره المهفهف في دخائل كل نفس، ويوطّد دعائم أبياته المطهّمة العتاق في مدارج كلّ حس، والأشعار التي تفتقد لهذه الصور البديعة يتخطّفها الموت، ويكتنفها الظلام، ولا يترنّم بها الناس في دروب الحياة ومتعرّجاتها. لأجل ذلك، أضحت الصورة الشعريّة جوهر الشعر وأساس الحكم عليه، ولقد اهتم النقاد بجانب التصوير منذ قديم الأزل، وقدّموا جهودهم في هذا الصدد، وإن اقتصرت جهودهم على حدود الصور البلاغيّة كالتشبيه والمجاز ولم تتعدّاها، لتشمل الصور الذهنيّة، النفسيّة، الرمزيّة والبلاغيّة التي تتبلور وتتناغم في وجدان الشاعر. ولعلّ الحقيقة التي يجب عليّ بسطها هنا، أنّ الصور التي يُعدّها أصحابُ الحسّ المرهف أغلى من أقبية الديباج المخوّص بالذهب ليست قاصرة على الشعر، بل نجدها منثورة في حوايا النثر، والتفاتات أذهان كُتابه.” (8)
وتستمرّ في نشيدها: “لِتُشْرِقَ شُمُوسُكِ مِنْ أقدَاحِي مَوَاسِمَ حَصَاد!/ مُنْذُكِ/ وَبَيَادِرِي مَا اسْتَبَاحَتْهَا إِلاَّ تَسَابِيحُ ذِكْرَاكِ!/ مُنْذُكِ.. وَسَنَابِلِي الْعَتِيقَةُ تَدَّخِرُ قَمْحَكِ/ بَارِكِي طَوَاحِينَ قَلْبٍ لاَ تَنْبِضُ إِلاَّ بِأَعَاصِيرِكِ الْيَانِعَة/ اِعْصِفِي بِي/ عَسْجِدِينِي بِرَاحَتَيْكِ الشَّفَّافَتَيْنِ/ لَوِّنِينِي بِسَطْعِكِ/ كَيْ يَنْضُوَ عَنْ رُوحِي أَتْرِبَةَ الْغِيَابِ.”
ها هي شموس السيدة العذراء تشرق من أقداح الشاعرة مواسمَ خيرٍ وعطاء، وبيادرُ شاعرتنا تُستباح ولا يستبيحها سوى ذكرى العذراء: وسنابلُ الشاعرة العتيقة تدّخر قمحَ وخيرَ العذراء، وتنتقل الشاعرة للأسلوب الطلبيّ، والأمر يتوالى أربع مرات ليفيد الدعاء، فتدعو الشاعرة السيدة العذراء أن تبارك طواحينها، وأن تعصف بها وتشدّها شدّا، وأن تجعلَ من جوهرها الذهب الخالص، وهنا تشتق الشاعرة من اسم العسجد الفعلَ “عسجديني”، كما يُعرف بالنحت، كما تدعو الشاعرة السيدة العذراء أن تبقيها نقيّة ساطعة بطهرها الدينيّ، ونلحظ أن الصورة الشعريّة هنا ليست مجرد زخارف أو ألوان زاهية ترصدها العيون، وتتطلع إليها الأفئدة، أو مجرد صور تلقائيّة من صور التعبير تضجُّ به حركة القصيد، ولكنها العمود الرابط الذي يجمع بين جزئيات مادة الشعر، وينبغي لهذا الرابط أن يتّسم بالرقة والجمال والصدق، لأنّه لبّ العمل الفنّيّ الذي يظلّ حاضرًا في معظم أذهان الناس، إذا توافرت فيه عوامل النجاح، وإذا كان صاحبه ينشد من ورائه أن يحظى بشيء من التقدير والإعجاب.
وتنشد: “نَأْيُكِ آسِنٌ يُحَوِّطُنِي بِمَائِكِ الْمُقدّس/ أَخْشَاهُ يَسْلِبُنِي نَبْعِيَ الْمُلَوَّن!/ تَخَطَّفِينِي مِنْ بَيْنِكِ مَلاَئِكَةَ حُرُوفٍ/ تُذْكِي هَجِيرَ قَنَادِيلِي بِاشْتِهَاءَاتِ الْكَوَاكِبِ!/ وَحْدَكِ مَنْ رَادَفَ جَرْفُهَا حَرْفَهَا/ وَغَدَوْتُ طَمْيًا عَلَى ضِفِافِ رَحِيلِكِ!”.
وتنتقل للأسلوب الخبريّ لتأكيد الذات وتصوير هول المأساة التي تحيق بالشاعرة والوطن، وتتكئ في هذا المقطع على توظيفها لفعل المضارع الذي يفيد استمراريّة المأساة وتصويرها، حيث يتكرّر خمس مرات: ““نَأْيُكِ”، و”يُحَوِّطُنِي”، و”أَخْشَاهُ”، و”يَسْلِبُنِي”، و”تَخَطَّفِينِي”. توظف الشاعرة الرمز فتقول: “نَأْيُكِ آسِنٌ يُحَوِّطُنِي بِمَائِكِ الْمُقدّس”، والماء المقدّس رمز لفلسطين الكاملة غير المجزوءة وبشقيها من النهر للبحر، وعلى ضفاف نهر الأردن اعتمد السيد المسيح، والاعتماد رمز للخلاص من الخطايا ورمز للضفة المحتلة عام 1967، ورمز لبحيرة طبريا والداخل الفلسطيني، حيث الأراضي التي احتلت عام 1948، وهناك نادى وبشّر السيد المسيح بالمحبة والسلام.
وتقول: “وَحْدَكِ مَنْ رَادَفَ جَرْفُهَا حَرْفَهَا“، والجرْف والحرْف يرمزان للكساح الفلسطينيّ والشلل العربيّ الصامت بعيدًا عن نصرة فلسطين، وتجانس الشاعرة بين كل من: “جَرْفُهَا” و:”حَرْفَهَا” لتوليد إيقاع عذب يسري في جسد النص.
“يَا مَنْ كُنْتِ كَمَائِنَ اقْتِنَاصِي بِفِتْنَتِكِ الآسِرَة/ أَنَا الْمَسْكُونُ بِدَفْقِ الظَّمَأِ لِتَفَاصِيلِ شُمُوخِكِ/ مَتَى تَغْدِينَ شَارَةً عَذْرَاءَ عَلَى عَوْدَتِي الأَبَدِيَّة؟/ أَنَا مَنْ تَكَلَّلْتُ بِمَوَاسِمِ الدُّوَارِ/ تُرَاقِصُنِي طُقُوسِي الْمَنْذُورَةُ عَلَى إِيقَاعِكِ الضَّبَابِيِّ/ عَلَّنِي أَسْتَعِيدُ نَبْضِيَ إِنْ مَكَثْتِ بَيْنِي وَبَيْنِي!”
تنتقل الشاعرة للأسلوب الطلبيّ، والنداء يفيد التحسر، ولفتنة العذراء كمائنُ تقتنصُ كما الصياد، والشاعرة كأنّها طائر يُقتنص .
“أَنَا الْمَسْكُونُ بِدَفْقِ الظَّمَأِ لِتَفَاصِيلِ شُمُوخِكِ”: كناية عن تعلق الشاعرة بالإيمان ونصرة العذراء للشاعرة والوطن.
“عَلَّنِي أَسْتَعِيدُ نَبْضِيَ إِنْ مَكَثْتِ بَيْنِي وَبَيْنِي!”:كناية عن التمنّي بتحرير الوطن. والشرط يفيد الإقناع والإتيان بالحجّة والبرهان، وفي كلمة “عَلَّنِي” انزياح بالحذف، والتقدير “لعلني”.
وتختم الشاعرة نصها بقولها: “ألْقيني بِحضْنِ وَقتٍ يُمْعِنُ في عِناقِكِ/ كَم أجادَ التَّفَلُّتَ مِنْ بَينِ أصابِعي/ وَنَحَّاني مُغَرِّدًا وَحْدَتي/ دَعيني أَتَوارى خَلْفَ صُداحِكِ/ حَيْثُ طابَ لَهُ المُكوثُ الرَّيَّانُ/ على هَوامِشِ ضوْئِكِ.”
وتبدأ الشاعرة هذا المقطع بالأسلوب الطلبي والأمر في قولها “ألْقيني” يفيد التمني أو الدعاء بأن تتمكن الشاعرة من معانقاتها للسيدة العذراء، وتتوالى الانزياحات، فللوقت حضن يمعن ويعانق ويجيد التفلّت من بين الأصابع، والأمر في “دَعيني” يفيد الدعاء، والمقطع كناية عن تعلق الشاعرة بأهداب الدين والقيم والإيمان والحق، بعيدا عن ظلم العالم الممعن في شريعة الغاب. فالصورة عند شاعرتنا تتمثل في مناجاة النفس، ومحاورة الضمير، والتأثير في الحواس، وحرصت على أن تصاحب قصيدتها متعة تحبّب إليها الأسماع وألا تكون مجرّد كلمات جوفاء، فهي مترعة بالشحن العاطفية في جزئية من جزئياتها، فالعاطفة هي التي تهب للحدس تماسكه ووحدته، ولا يعتبر الحدس حدسًا، إلا لأنه يمثل عاطفة ملتهبة، كما أنّ نقاد العصر الحديث اجتمعت كلمتهم، على أن جمال الصور ليس دقتها أو مطابقتها للواقع، ولكن بمقدار الانفعال الطاغي الذي يربض هائجًا في داخلها، وإذا كانت الصورة لا قيمة لها بدون عاطفة، فالعاطفة لا معنى لها بدون صورة، فالعاطفة بدون صورة ضريرة عمياء، والصورة بدون عاطفة خالية جوفاء، كما ينبغي أن تكون العاطفة صادقة وليست زائفة ،وأن يكون دافع هذه العاطفة صحيحًا وليس أمرًا مصطنعًا، كما يشترط في العاطفة ثباتها وعدم تقلصها.
ولأنّ العاطفة تعتبر أهمّ ما في الصور الأدبية، فقد حرصت الشاعرة على ينقل تأثيرها في خلد المتلقي بروعتها بلفظ يأسر القلوب، ويفتن الوجدان، لأن اللفظ هو البنية الأساسية لأيّ عمل أدبيّ، وبمقدار ما ينجح الشاعر في تخير اللفظ المناسب الملائم للمعنى، بقدر ما يقدّم فنّا أدبيًّا يسمو به فوق ذرى المجد. وقد توافرت في هذه الصورة الإيحاء، فالصور الإيحائيّة أبعد تأثيرًا في النفس، وأكثر علوقًا في القلب من الصور التقريريّة الوصفيّة، وهي أبعث بالتالي على المتعة والإحساس بالجمال، كما يشترط النقد الحديث ويلحّ في الاشتراط على توفّر الوحدة المهيمنة على جميع الصور التي تبدّت في القصيدة، فصور الشاعرة نراها تتمّ في نطاق وحدة معينة، فهي ليست متنافرة بل متجانسة ومتماسكة.
“إنّ التوجّه إلى التراث الشعبي والاستعانة به في تشكيل معالم النصّ الشعريّ المعاصر، لم يكن وليد الترف الفكريّ أو العبث الفكريّ، إنّما كان لحاجة مُلحّة هي الباعث والمحرّك. فقد وجد الشاعر المعاصر في النصّ الشعبيّ النموذج والمثال، والملجأ والملاذ، يُعبّر بواسطته عن جراح الذات والجماعة وتصدّعات الواقع، كما يُجسّد من خلاله القهر الروحيّ الناجم عن اختلال القيم، والكبت الفكريّ الناتج عن الفساد الاجتماعيّ، ويفضح الاستبداد السياسيّ من خلال ضياع الحقوق وغياب العدل، فيستعين به على الخروج من مستنقعات الواقع الآسن، إلى رحاب آفاق الخيال الواسعة النقيّة، يستمدّ من قواها ويتزوّد بقيمها لمجابهة الحتميّة.” (9)
ووظفت الشاعرة تقنيّة القناع، “فكل متلقٍ* يستقبل الشخصيّة المستدعاة، ويتعامل معها وفق مكوّناته الفكريّة والنفسيّة، ويقوم السياق الذي ترد فيه بدور مهمّ في توجيه التلقي وتحقيق جدواه “.(10)