شعراءُ و لَكِنْ ..
صدقَ الشّاعرُ نزار قبّاني بما قالَه عن شعراءِ هذا العصر ”شعراءُ آخر زمن“
(شعراء هذا العصر جنسٌ ثالثٌ
فالقول فوضى و الكلامُ ضبابُ
يتهكمون على النبيذ معتقٌ
و همُ على سطح النبيذ رضابُ )
أمّا بعدُ فالشّعرُ رسالة ، و اللّغةُ أمانة …
نواقيسُ الأدبِ تُقرَع ؛ كَثُرَ المُتَشعّرون في رباها، أساساتُها تُصرَع ..
حروفٌ من قواميسَ تُستقطَع ، و كلماتٌ تُنسَبُ للُغتنا تُحيلُ النّصَّ لمُستَنقَع .
ما كلُّ مَنْ كتبَ شاعراً يُدعى ، و لا كلُّ من تسلّقَ السّلّم فللشّعرَ سيرقى ..
الشّعرُ رسالةٌ يا سادة ..
ليسَ لعبةً لنيلِ رضا السّاسة ، و لا هزلاً لِيُصفّقَ لهُ منِ الحبُّ قادَه ؛
و لا عزفاً يُطرِبُ و جوفُهُ خالٍ من أيِّ إفادة ..
لو أنَّ امرؤَ القيسِ كان بيننا ، ما كُنّا لنرفعَ بصرنا أمامَهُ بشعرٍ كهذا .. لكانَ بكى على أطلالِ شعرِهِ و فلولِ أمجادٍ جزافا . خسفَ لنا عينَ الشّعرِ ؛ و قليلٌ منّا يرتادُه ..
قديماً كانتِ العربُ تنطقُ كلاماً موزوناً مقفّى ، و البدوُ فصاحتُهم أقوى ، و رغمَ ذلكَ ما خلّدوا من أقوالهم إلا النّفيسَ من معلّقاتٍ كانت للشّعرِ أحفظَ و أبقى .
يقولونَ بالتّحرّرِ من قواعدِ الشّعرِ لعجزهِم الخوضَ في بحر الشّعرِ و أكبادِه _و من قال إن على الجميعِ أن يصبحوا شُعراء ؟! _ فأيُّ تحرّرٍ يُريدون إن كان كلامُ الناس العاديّ أصبحَ يُقال عنه شعراً ؟! ، و فاضَ دجلةُ و الفراتُ و دلتا نيلٍ عن أكوامٍ و أكوامٍ من الشعراءِ . كلامٌ مُقتَبس ، لا تجديدَ فيهِ و لا ابتكار ، لا إبداعَ و لا أفكارَ أو صور تُعمِلُ الخيال ..
نُصوصُ اليومِ نسخٌ و إعادةُ صوغٍ ، و على الشّعرِ السّلام .
شاعرٌ يبقى لياليَ و أياماً _و ربما أكثر_تنهشُ القصيدُ من روحِهِ ليبُثّ أسراراً و خيالاً ، و سحرَ فنّانٍ يرسمُ ببديعِ الكلماتِ شعراً من وحيِ إلهام ، يبهرُ القلوبَ قبلَ الأسماع ؛ يتواضعُ و يتواضعُ ،فيكبُرُ و يكبر في عينِ شعرِهِ و سواه ..
و آخرُ يأتي يستجمعُ ذاكرَتَه كلمةٌ من هنا ، و جملةٌ من هناك ، صورةٌ من خيالِ شاعرٍ ابتكرها ، و ومضةٌ أبدعها فنان ، لتُخرجَ نصّاً يستغيثُ تخمةً بتناقضِ معانيهِ و الكلمات .
جَهِلنا الشّعرَ و قيمَتَه ، و صارَ الذّوقُ مشوباً ..
اختلطَ الحابلُ بالنّابل ، و صارَ الشعرُ على الغارب ..
يُكتبُ النّثرُ فيقالُ شعراً ، و صاحبُهُ أشعرُ من شاعرِ عامودٍ !! ..
يُعجبُ الجمهور ما يوازي عقولهم الهشّة ، و يعزفون عن شعرٍ يوقدُ في العقلِ خيالَ كشّاف ..
واقعٌ كلُّ ما فيهِ تغَيّر ، كان الشعرُ ديوانَ العرب ، و أصبحَ رماداً يذروهُ الشّغَب ..
ما كانَ للشّعرِ أن يخلعَ أصالته ، و ما ينبغي له ، إن هوَ إلّا تراثٌ و ولاء ، لا امتهانَ لقبٍ صنعَ للأمّةِ حضارة ..
صعدَ المُتشعّرون ، و صاروا على الشّعرِ عالة .. و بقيَ الشعرُ ينتظرُ من يطرقُ بابَهُ ليعيدَ مجدَهُ و عُلاه ..
فليكتبوا ما أرادوا و لنكتبَ للشّعرِ و لأنفسنا لعلّ مناّ من يعيدُ راية الشعر .
و ختاماً ، الشّعرُ بحرٌ ما كلٌّ سابحٍ بهِ علِمَ سرّهُ و كنهَ ضياه