قراءة في قصيدة “شهيدة وشهيد”* لـ فراس حج محمد
العديد منا ينحاز للمرأة، فهي من تمنحنا الهدوء والسكينة، وتخلصنا من البثور والدرن الذي يعلق بنا، و”فراس حج محمد” من هؤلاء المنحازين لها، فقد كتب لها وعنها أكثر من ديوان وكتاب، لكن هذه المرة الأولى التي أقرأ له عن “شهيدة”، واللافت في عنوان القصيدة أنه يقدمها على الشهيد، وهذا يؤكد انحيازه الكامل للمرأة، وتستوقفنا فاتحة القصيدة التي لم نر فيها ألفاظاً سوداء أو قاسية، ولا مضمون أو فكرة ألم:
“شهيدة وشهيد على متن الغيومِ فرحْ
كيف التقى بكما، فخرجتما من بين قوس قزحْ؟
كيف استعدّكما من بين ناب وشبحْ!
وفرحتما، وعبقتما، ونظرتما، وضحكتما
فتعانق اللحنانِ في لحظِ المرحْ!
ناديتما الجمع الذي سجّاكما فنفضتما ذاك الترابَ..
ركبتما فرساً تهاداه المدى، مدّ البهاءِ قد اتّضحْ”
جاءت الألفاظ كافة بيضاء وناصعة إذا ما استثنينا “ناب وشبح، سجاكما، فنفضتما”، وهذا الأمر نادر الحدوث، كيف لشاعر أن يحول الموت/ الشهادة إلى فرح وفضاء وغيم وقوس قوح وضحك وعناق ومرح ونداء”؟ ولماذا جعل فاتحة القصيدة بيضاء؟ ولماذا يستخدم أكثر من لفظ متعلق بالفضاء “الغيوم، قوس قوح”؟ وهل لهذا البياض علاقة بفكرة الجنة والفردوس؟
للإجابة على تلكم الأسئلة علينا أن نفكك المقطع السابق، الحديث يدور عن اثنين؛ “شهيدة وشهيد” وهذه الثنائية/ الزوج ابتدأ به خلق البشر، “آدم وحواء”، الثنائية هي العامل الأهم، لهذا نجد “الغيوم، قوس قوح”، والعلاقة تكاملية بين الغيم والقوس، “فرح، المرح” أيضا، وهناك تقارب بينهما، “التقي، فتعانق” تلازم وتكامل في الفعل، وإذا ما أضفنا صيغة المثني المخاطب “فخرجتما، استعادكما، فرحتما، عبقتما، نظرتما، ضحكتما، ناديتما، سجاكما، فنفضتما، ركبتما” تكون ثنائية هي الحالة التي يركز عليها الشاعر، أو هي التي تتحكم في مسار القصيدة، إذا عدنا إلى وصف الجنة سنجد فيها شيء مما جاء في فاتحة القصيدة، فكرة الأزواج، الفرح والمرح والضحك، الجمال الطبيعة، الغيم وقوس قزح.
وإذا عدنا إلى استخدام الشاعر “فخرجتما، سجاكما فنفضتما التراب”، يمكننا تأكيد أن فكرة القيامة والجنة حاضرة في وجدان الشاعر، وها هو يقدمها بالطريقة والكيفية التي يؤمن بها.
وبعد أن وصلت الشهيدة والشهيد إلى الجنة، يعود بنا الشاعر إلى حدث الشهادة:
“شهيدةٌ وشهيدْ
على متن الخلود مسافةٌ الصفر بينكما
وعبارتان تؤلفان العبقرية في الموتِ الجميلِ المقترحْ”!
يحاول الشاعر الابتعاد قدر المستطاع عن المشاهد القاسية والمؤلمة، وحتى الألفاظ، لكن بما أن الحدث هو الشهادة، فلا مناص من تناول بعض الألفاظ القاسية، من هنا جاء “الموت”، لكنه يعلم مباشرة أنه خدش البياض الذي افتتح به القصيدة، فيستدرك بوصفه بـ “الجميل”.
إذن هناك رغبة عند الشاعر في الابتعاد عن الألفاظ والمشاهد القاسية، إن كان بوعي أو دون وعي، فلا يريد أن يعكر صفو الشهيدة والشهيد، ومن ثم يتأثر هو بهذا السواد ومن بعده نحن المتلقين:
“أيها هذا القابض موتا في يديكْ
هيا استرحْ
شهداؤنا فرحٌ على فرح لا يعرفون سوى الفرحْ”
ما يلفت النظر أن الشاعر يستخدم بعد الألفاظ القاسية ألفاظا جميلة، محاولا التخفيف من أثر اللفظ الأسود أو إلغاءه إن أمكن، فبعد “القابض موتا” يستخدم لفظ “فرح” ثلاث مرات، ونتوقف هنا عن رقم ثلاثة ورموزه المقدسة، فالرقم ثلاثة وسبعة من الأرقام المقدسة دينيا، ويتم استخدامها لفك السحر وإبعاد العين والحسد والأشرار والسحرة، وهذا ما قام به الشاعر.
الحديث عن الشهداء يحمل الألم، مهما كنا أقوياء، فنحن نبكيهم ونحزن عندما نستحضرهم أو يستحضرون، هكذا الواقع، لكن الشاعر يغرب الواقع من خلال:
” أرأيتهم يبكون؟!
وماذا إن بكوْا شيئا قليلا من حنين مفتضح؟”
هل أراد الشاعر بالتغريب البكاء أن يهرب من بكائه عليهم؟ أعتقد أن صيغة السؤال الموجهة لقابض الموت تشير إلى أن الشاعر حول/ وجهة غضبه ورفضه وحزنه على الشهداء إلى قابض الموت، فهو يرفض (الموت) حتى لو كان سيؤدي بهم إلى الجنة، فمن خلال صيغة السؤال عمل الشاعر على التعبير عن حزنه، فأبدى غضبه على من قام (بقتلهم)، وجعل الشهداء حتى لو (افتراضيا ) يبكون.
تستوقفنا عملية التحول من صيغة المثنى إلى صيغة الجمع، فهل أراد بها الشاعر أن يعظم الشهيدين؟ أم أن عقله الباطن ذكره بالشهداء الذين قضوا؟ فتحول إلى صيغة الجمع؟
“ستراهمُ في زيّك المتهتكِ المسبوغِ رعبا في القدحْ!
فاشرب لهم نخبا جديدا من دمٍ
وهُمو سيشربون زهوا قد جمحْ!
ويواصلون بعد الموت موتك!
فاسترحْ منهم قليلا ذات ليلْ
حتى تراهم في غدٍ يتراقصون أمام عينك في المطرْ
ويعبرون ظلكَ… فاسترح”
اعتقد أن الحديث يدور عن الشهداء عامة، فقد ذكره موضوع “الشهيدة والشهيد” بمن سبقوهم، فهناك كم من الألفاظ السوداء “المتهتك، رعبا، دم، الموت، موتك، ليل”، وإذا ما عند توقفنا مضمون وفكرة هذه المقاطع، نجد انفعال الشاعر وابتعاده عن موضوعه “الشهيدة والشهيد”، فصوته كان عاليا، وفيه شيء من المباشرة.
يتقدم الشاعر منن جديد إلى “الشهيدة والشهيد”:
“أرأيت كيف شهيدةٌ وشهيدْ
تعانقا في السرمدي المنفتحْ!
وتمردوا…
كلّ الحواجز والرصاص
إلى ذاك المدى المطلقْ”
البياض “تعانقا، المنفتح” جاء مباشرة بعد ذكر “الشهيدة والشهيد” وصيغة المثنى حاضرة كذلك، لكن هناك صيغة الجمع “تمردوا” حاضرة أيضا، وهذا يشير إلى أن الشاعر لم (يتحرر/ يتخلص) من أثر الشهداء الآخرين، وهذا ما جعل الألفاظ بعد صيغة الجمع “تمردوا” تأتي قاسية: “الحواجز، الرصاص”.
يتقدم الشاعر من جديد إلى البياض:
“هل كنتَ تعرفُ كيف ينبجسُ الفرحْ
من لحظةٍ جرع الشجرْ
نخب النضوج المتَّضحْ؟
هيا استرحْ”
“البياض مطلق، يتوحد فيه اللفظ والمضمون معا، وهذا البياض ناتج/ رد/ تعويض عن السواد الذي سبقه، فالعقل الباطن للشاعر يعي أن هناك (خللا أو تعباً حدث بعد ذاك السواد، فأراد أن يزيله، فجاء هذا البياض.
وإذا ما توقفنا عند المقطع السابق، نجد “الماء/ ينبجس، ونجد الطبيعة/ الشجر، ونجد الجمال الإنساني/ الفرح، فالشاعر يعود إلى كونه شاعرا، فيستخدم عناصر الأمل؛ “المرأة، والطبيعة، والكتابة،” لكن بأشكال تتلاءم والقصيدة:
“هيا استرحْ
إن شئت فانظر للخليلِ
شهيدة وشهيدْ
تعمدا وصلا جديدا
لست تعرف كنهه وجماله
هم وحدهم صُنِعوا على عينيْ جلالِ اللهْ!
فحدقْ… واسترحْ “
رغم أن الألفاظ بيضاء إلا أن الصورة لم تأت ناصعة، وكأن الشاعر بدأ (يعي/ يستوعب) أنه يتحدث عن شهيدين، ولم يعد من الممكن أن يعودا من جديد، وهذا ما يؤكده فعال الماضي “صنعوا”.
“قد استباحوا كلك المشؤومْ
فاستبح منهم جسدْ
واشربْ دماً
وانظر بعدها عرسين في كل ركنٍ منشرحْ”
حالة التسليم بما حدث للشهيدين، فالشاعر يوعدهما، ويسلم أيضا بقوة وقدرة “قابض الموت” على الفعل، لهذا يخاطبه “فاستبح، واشرب، وانظر” وكأنه بهذا الأمر يريد أن يعطي نفسه شيئا من السيادة؛ ليكون متزنا وهادئا، وهذا ما يؤكد حالة الشهيدين “عرسين في ركن منشرح” فهما لم يتألما، بل منشرحين، فلا حاجة إذن للغضب من “قابض الموت”.
“شهيدة وشهيدْ
على متن الغيومِ فرحْ!
هو ليس رمزا عابرا أفق المجازْ
لكنما أسرارُ قوسِ قُزحْ”
خاتمة منسجمة تماما مع الفاتحة، فيها الغيوم، والفرح، وقوس قزح،” فكما كان اللقاء والوقوف أمامهما (جميلا)، فها هو يودعهما بالطريقة نفسها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تتحدث القصيدة عن استشهاد دانيا ارشيد (16) عاما ورائد جرادات (22) عاما، وقد تمت خطبتهما في سابقة رمزية، استشهدت دانيا بتاريخ 25/10/2015، ورائد بعدها بيوم 26/10/2015. القصيدة مرفقة مع المقال.