السّرْديّة ومحاولة تعريف: “ليس حلما” أنموذجا
هل تتقاطع الفنون السردية في منطقة ما؟ وهل يمكن لعمل أدبيّ أن يلتبس بين هُويّتين أو أكثر؟ سؤلان يبرزان وأنا أقرأ كتاب “ليس حلماً” للكاتب الأسير سامر محروم، الصادر مؤخرا عن دار طباق للنشر والتوزيع في رام الله. يبدو أنّ دار النشر قد أصرّت على منح الكتاب هُويّة تجنيسية جاذبة من خلال قذف النص إلى منطقة مغرية للقراء، فصنفته “رواية”، مثبتة ذلك على الغلاف، وأثبتت داخل الكتاب في الصفحة الثانية والثالثة وصف “حكاية”. والغلاف، كما هو معروف، واجهة إعلامية بالدرجة الأولى، ولذلك يحمل الغلاف كل ما من شأنه ترسيخ هُويّة الكتاب ومنحه كامل حقوقه في الوجود من تصنيف واسم مؤلفه واللوحة، عدا اقتران اسم الكتاب بوصف أسير، ليصبح كتاب “ليس حلما” رواية للأسير سامر محروم. ولكن هذه الشخصية التصنيفية ملتبسة بين الرواية والحكاية. وماذا على الناشر من ضير وخوف لو اكتفى بوصف حكاية؟ إنها لعبة الناشر الذي يبحث عن فرصة أكبر للتسويق، فالرواية أكثر حضورا وتمدّدا وسطوة من غيرها من الفنون السردية كالحكاية أو القصة القصيرة على سبيل المثال، وربما زاد من احتمالات التسويق هذه اقتران اسم المؤلف بصفة “أسير”. هذه الصفة التي ربما منحت الكتاب فرصة أفضل للتداول على اعتبار أن هناك تعاطفا شعبيا وثقافيا مع قضية الأسرى. ولذلك فإن الخبر المنشور في صحيفة الأيام (الموقع الإلكتروني للصحيفة بتاريخ: 2019-8-22) عن صدور الكتاب يؤكد هاتين الصفتين، الرواية للكتاب، والأسير للكاتب، وأحببت أن أشير إلى خبر النشر، لأنه يشكّل نصا موازيا فوقيا إشهاريا للكتاب يعاضدُ غواية العنوان والجنس الأدبي وصفة “الأسير”. إذن أصبح لدى الناشر دعامتان مهمتان ليصبح الكتاب رائجا، الأول إلباسه ثوب “الرواية” الفضفاض وتأكيد صفة الأسير لكاتبه.
من المهم أن يتم التوقف عند ما كتبه الكاتب نفسه في ثنايا كتابه واصفا إياه بقوله: “أنا لست روائيا بل راويا لأحداث حقيقية، وليست من بنات أفكاري”. (ص119) يبدو الكاتب مدركا لعمله وطبيعته السردية، فهو ليس “رواية”، وإن أصرّ الناشر على اعتباره رواية، وقد تنبه الكاتب إبراهيم نصر الله في مقدمته للكتاب إلى هذه المسألة بقوله: “هي كتابة توثيقية، إذاً، وإن استعارت سردا روائيا”. (ص7)، ومن المهم هنا الإشارة إلى أن وصف “حكاية” ربما كان من وضع الكاتب نفسه واقتراحه، وجاءت كلمة “رواية” وصفا دعائيا خاويا من الدلالة. وفي محاولة أخرى للخروج من التباس التصنيف، يكتب فارس عصام مقدمة قصيرة، يبين فيها أن الكتاب “أعمق من حكاية وأقل من رواية”. (ص9)
ومما يزيد من الالتباس التصنيفي أيضا رغبة الكاتب في الكتابة بحرّيّة دون الالتزام بمواصفات الرواية الفنية، فقد نظر إلى كتابه هذا على أنه نوع من المقاومة، لتوثيق معاناة الأسرى، لأنهم، أي الكتّاب الأسرى، هم الأقدر على فعل ذلك من غيرهم. يقول الكاتب: “وكل الأمم التي كانت محتلة سطّرت مقاومتها في روايات الأدباء، وتاريخنا حافل في زخم أحداث متتالية، بهذا تتوفّر التربة الخصبة للكتّاب والأدباء في تخليد تاريخنا الإنساني لأجيال قادمة، فالتاريخ يجب أن يكتب بأقلامنا نحن الذين اكتوينا بنيران الاحتلال”. (ص110)، بل إن الوعي لدى الكاتب في أهمية الكتابة أعمق من ذلك، عندما يقرّر في النهاية أن سطوره “ليست نوعا من الفنتازيا الأدبية في محاولة للظهور بموقف بطوليّ، وفق ما تقتضيه بعض الروايات لشد انتباه القارئ، بل هي للظهور بتواضع أمام عظمة من ضحوا بدمائهم على درب الحرية والاستقلال”. (ص128)
إذن، تتراوح المسألة التصنيفية بين الرواية والحكاية، مع أن وصف الحكاية لا ينطبق انطباقا تاما على الكتاب، إلا مجازا، على اعتباره حكاية سامر محروم وتنقله بين سجون الاحتلال على مدى ثلاثين عاماً، لأنه يشتمل على عدة حكايات صغيرة متناثرة لا شيء يجمعها فنيا سوى أنها تنتمي لعالم الأسير سامر وحياته الشخصية داخل السجن، وتشكل كل واحدة منها “حدثا تاريخيّا خاصا يمكن أن يلقي سرده ضوءا على خفايا الأمور أو على نفسية البشر”. (معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبه، ص17). وكذلك ينقص الكتاب كثير من العناصر الفنية ليكون رواية مع أن المادة الأصلية للرواية توفر الحكاية، ولكن هذه الحكاية يلزمها كثير من العناصر الأخرى لتحولها من مجرد حكاية إلى رواية بالمفهوم الحقيقي للرواية كفن سردي.
ليس لإيراد الكاتب اسمه في الرواية أي علاقة بنفي الصفة الروائية، كما ادّعى الكاتب إبراهيم نصر الله، فهناك مثلا روايات السيرة الذاتية، وروايات التخييل الذاتي، وكلها بإمكان الكاتب روائيا أن يورد اسمه صراحة في المتن الروائي، وهنا يمكنني إحالة الروائي نصر الله على تجارب فلسطينية وعربية وعالمية أورد فيها الكتاب أسماءهم صراحة، فقد أورد “ربعي المدهون” اسمه في رواية “مصائر- كونشرتو الهولوكوست والنكبة”، ومليكة مقدم الروائية الجزائرية في رواية “رجالي” مثلا، والمثال الأشد حضورا رواية “الشطار” لمحمـد شكري التي وُصفت بأنها رواية، على الرغم من أنها تشكّل الجزء الثاني من سيرة شكري الذاتية، وأما من الأدب العالمي، فهناك الكثير من الروايات التي لم يتورّع الكتّاب في ذكر أسمائهم، ولعل أهمها رواية “طعام، صلاة، حب” للكاتبة الأمريكية إليزابيث جيلبرت، مع أنها قد وصفت بأنها “سيرة ذاتية”، أو “مذكرات” كما يحلو للبعض أن يصنفها، عدا أنه لا ناقد ينفي عن الرواية بعدها التوثيقي، ومنها روايات إبراهيم نصر الله نفسه، وخاصة “أرواح كليمنجاروا”، فهذه ذريعة ليست كافية لإخراج الكتاب من دائرة الرواية المغوية، كما قال نصر الله في مقدّمته القصيرة الملتبسة.
ولكن بعد كل هذا، ما الوصف الأنسب لهذا الكتاب المسمى “ليس حلما“؟ سأنطلق من قول فارس عصام أن الكتاب “أعمق من حكاية وأقل من رواية”. إنه توصيف جيد ومقارب للكتاب وطبيعته السردية، فلم يصل الكتاب إلى مستوى الرواية، وتجاوز الحكاية أيضا، وربما لذلك يصدق على هذا الكتاب وصفه بأنه “سردية“، ولكن هل تشكّل كلمة “سردية” وصفا تجنيسيا معتبرا في حياة السرد العربي المعاصر؟ وهل يمكن للسرد العربي أن يوجد أصنافا تجنيسية خارج ما هو مألوف من رواية وقصة ومسرح؟
ربما لم يكن هذا الوصف التجنيسي “السردية” شائعا في السرد العربي، وسبق للكاتب جمعة الرفاعي قد اتخذه وصفا لكتابه “خارج الموعد” (دار الجندي، 2014) الذي كتبه داخل السجن أيضا، وكذلك فعل الكاتب شريف سمحان في وصف كتابه “أيلول الأسود”، (جمعية الزيزفونة، 2016) في حديثه عن أحداث أيلول الأسود التي وقعت في الأردن مطلع السبعينيات، فما هي السردية إذن؟ وسأحاول تعريفها انطلاقا من هذه الكتب الثلاثة.
إن دراسة هذه الكتب الثلاثة المشار إليها أعلاه، تمكّن الدارس من صياغة تعريف لمصطلح السردية اعتمادا على المفهوم العام للسرد “الذي يشتمل على قص حدث أو أحداث أو خبر أو أخبار، سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال” (معجم مصطلحات الأدب، ص341). وعليه، فإن السردية هي: “كتلة لغوية نثرية، تجمع ما بين المقالة والسرد الحكائي، ويتداخل فيها الذاتي والموضوعي، وتغلب عليها المشاعر ومفردات البوح، والحنين (Nostalgia)، وتتضمن توضيح وجهة نظر كاتبها وأفكاره بحرّيّة“. ففي كتاب “ليس حلما” بعض من المقالة، وخاصّة في بدايات الفصول، وفيها الحوار الفكري البحت ما بين الخيال والفكر، وفيها عدم الالتزام بالتسلسل المنطقي للأحداث. كما أشار الكاتب نفسه إلى ذلك بقوله: “قد تكون الأحداث الواقعية فيما أرويه غير متسلسلة لإرضاء ذوق القارئ، لكنها مترابطة إلى الحد الذي أشعر بأنني تحرّرت مرة أخرى حين أعود للكتابة مجدّدا”. (ص119)، وبهذا الوعي على مسألة الكتابة المتجاوزة للتصنيف التقليدي للنصوص السردية ينهي الكاتب “سرديّته” بجملة “لم تتم…”.
لقد كان الكاتب يكتب كتابه لهدف يعيه تماما، واختار له الشكل المناسب لأفكاره التي يريد لها أن توثق تجربته في السجن، وإلى حد ما كان يعي أنه لا يكتب رواية، وإنما يعبر تعبيرا حرا دون الالتزام بالتسلسل المنطقي للأحداث أو الانتباه لعناصر الرواية، ولذلك ربما كان الأقرب إلى ذهنه وصف الحكاية، مع أن كتاب “ليس حلما” أعمق من حكاية، يُقترح له وصف يناسبه، وهو “السرديّة“، ويمكن للدارس سعيا وراء الاختصار المكثف الذي سيظل يتطلب الشرح والتوضيح القول إن السردية هي شكل فني “أعمق من حكاية وأقل من رواية”.
إن الكتابة الطازجة تقترح شكلها المناسب لها، تبعا للتجربة الشخصية للكاتب، كما حدث أيضا مع كتّاب كبار كتبوا سردا بطريقة مختلفة، لم يكن رواية ولا يصح أن يكون رواية، فاخترعوا له اسما لم يتداول كثيرا بين الأدباء والنقاد، كبعض ما كتبه نجيب محفوظ ومنصورة عز الدين وغيرهما وأطلقا عليه “المتوالية أو المتتالية القصصية”، وكنت قد أشرت إلى ذلك بالمزيد من الآراء والأمثلة فيما كتبته عن كتاب “جرائم لا يعاقب عليها القانون” للكاتبة الفلسطينية شادية كمال. إنها فرائد الكتابة التي تحتاج إلى ترسيخ في عالم الكتابة الإبداعية والتنظير النقدي، ومثلها أيضا ما شاع من روايات “التخييل الذاتي”، واعتماد هذا المصطلح جنسا مستقلا على أغلفة الكتب السردية التي تمثله، وكنت قد تحدثت عنه أيضا وبإسهاب في كتابي “ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد” تحت عنوان “البحث عن التخييل الذاتي في سياق السرد المعاصر”. (مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2019، ص53-69).
وختاما، لا يعني هذا بحال من الأحوال أن كتاب “ليس حلما” خالٍ من الملاحظات النقدية، فيما يخصّ البنية اللغوية ذاتها، بل إنها ربما أيضا تعاني من مشاكل متعددة، في بعض جوانب أسلوب الكاتب؛ فقد اعترته الركاكة أحيانا، وغصّ الكتاب بالكثير من الأخطاء اللغوية التي كان بالإمكان تداركها لو تمت مراجعة النصّ بشكل صحيح وبتروٍ. وهذه على أية حالة مسؤولية الناشر أيضا، وليس التصنيف فقط، وتصبح آكد وأوجب إذا ما كان الكاتب أسيرا قابعا وراء القضبان، متشوقا ليكون كتابه بحلة لغوية جيدة، خالياً من أي خطأ قد يشوه النص، أو يزعج القارئ، وهذا أقل ما يمكن أن تقدمه دار نشر لكاتب ارتضى أن يطبع كتابه لديها، وسبق أن تحدثت عن هذه المسؤولية المهنية كثيرا في وقفات سابقة، ولكن على ما يبدو لا أحد يهتم بمثل هذه القضايا الأخلاقية المهنية، حدث ذلك مع “ليس حلما”، وسيحدث مع غيره، ومع كل دار نشر، للأسف، وهنا ربما لا تطاوعني نفسي لأقول إلا من رحم ربك!