“الجناة الصامتون ! ما بين خريطة التحرش وبرمجة الوعي”
التحرش هو كل فعل غير مقبول “وقد ينحصر في مجرد نظرة جنسية أو تلميح وإشارة، أو إيماءة” تجاه الأنثى التي تتعرض للسلوك ، بحيث يقع الفعل دون موافقتها ودونما السماح به، إلى درجة اقتحام مساحتها ومحيطها الشخصي أو جسدها بأسلوب عدائي مقصود أو غير مقصود_ وأعني بالأسلوب الغير مقصود كمثال، حالة الشخص الذي يعجب بفتاة، ثم يدفعه حبه إلى الإلحاح تقرباً منها على الرغم من رفضها المتكرر لعرضه ، وإثنائها له عن الفكرة ، هذا الشخص وإن لم يكن يدرك فإنه يمارس أسلوباً يندرج تحت مسميات التحرش حال استمراره في سلوك الضغط عليها وإزعاجها بهذا الحب، والشخص الذي يدير شركة تعمل بها امرأة فيحاول أن يجذبها بعروض الترقيات والمكافآت غير المبررة يُدرج كمتحرش أيضاً_ إذن نفهم مما سبق أن التحرش هو كل سلوك ينتهك حرية الإرادة والكرامة معاً، وما يتصل بذلك من تداعيات جسدية وصحية ونفسية مؤلمة “
قد يحدث التحرش في أكثر الأماكن البعيدة عن التصور و تتواجد بها المرأة، أو حيث يتواجد الأطفال وحتى الرجال! في أوقات كوضْح النهار أحياناً ، وقد يصدر السلوك المشين عن رجل مضطرب أو امرأة مضطربة ، فقد أثبتت الدراسات” map of harassment” أن نسبة التحرش في النهار أعلى من الليل، أيضاً ثَبُتَ أن نسبة 75.7 % ممن خضعن للدراسة كُنَّ مرتديات ملابس محتشمة ، ولا يضعن مساحيق تجميل وقت تعرضهن للتحرش، مقابل 2.1% كُنَّ مرتديات ملابس تكشف أجسادهن ويضعن مساحيق تجميل ! واستناداً إلى نفس الدراسة، فقد يقع التحرش أو الإعتداء الجنسي في أماكن العمل ،و دور العبادة، أو في بيت الأسرة (كما هو المثبت أيضاً في بعض الحوادث المؤلمة الفعلية، والتي تشير إليها الصحف يومياً ) الصادم أن يقع هذا النوع من الجرائم في أماكن تأخذ طابع الأمان للضحايا، أو يصدر عن جهات يفترض بها حمايتها للضحية، وعمن هم في محل ثقتها !
وغالباً يصدر عن شخص ذي سلطة أعلى ضد شخص يرزح تحت وصاية تلك السلطة، وقد ذكر د. حكمت سفيان في كتابه “الجنس السياسي” بعض القصص عن المعتقلات الأمريكية و أسرار البرامج النازية ، فالجناة دائماً كانوا من الرؤساء والأثرياء وذوي السلطة ومن الخلايا التي تعمل لصالح نشر فلسفة تعذيب علمية ومتعمدة! فبرزت نشوة شخصية لا علاقة لها بأي جدوى، سوى قهر الضحايا في جرائم غريبة الطرق بالمعتقلات ،وخصوصاًضد الأطفال والنساء..
*أيضاً ضمن تعريف التحرش نجد أنماطاً سلوكية قد تبدو بعيدة كل البعد عن معنى التحرش الجنسي ، لكنها تشكل صميم معاناة الإعتداءات الجنسية ، فالتنمر والعنصرية كلاهما يشكلان أحد أشكال التحرش وضمن أنماطه العديده ، بحيث يهدف إليهما الجناة المتحرشون أكثر مما يهدفون إلى الجنس أو إلى الإستمتاع الجسدي بحد ذاته. بضع تقنيات نفسية لغاية إشعار الضحية بالرفض “وهذا هو هدف المتحرش الأول” أن يرفضها ويتنمر عليها من خلال الإعتداء على حرية إرادتها بسبب جنسها أو لونها أو طبقتها الإجتماعية أو عمرها ! لدفعها إلى خوف وذعر ورجاء ونوع من العبودية التي يتوقعها من الضحية، مما يزيد من متعته الجنسية؛ كلما رأى الخوف في عيون فريسته ! وكلما سمع الصراخ والبكاء فتزداد لديه نشوة التفوق! نعم، لدى معظم الجناة المرضى لم تكن المتعة الجسدية فعلياً هي الهدف الرئيسي، بل كان حب السطوة ورغبة السيطرة، وهم القوة الزائفة. وأيضاً وهم التفوق الذي يشبه لذة مخدرات تتلاشى سريعاً !
سيكولوجية المتحرش :
وردت رواية في تقرير عن” التحرش بمصر” لأحد المتهمين بتلك الجناية نحو ما يزيد عن المرتين ، وكان يصارح طبيبه النفسي “جمال فرويز” قائلاً : أنا فجأة لم أعد أملك السيطرة على نفسي ، كنت أسير على الصراط المستقيم ، أنا مجنون ” المتحرش هو شخص يعاني بدوره من عقدة نقص وإحساس بالدونية والإهانة عميقين في بناء الشخصية، وأظهرت أغلب التحليلات النفسية أن المتحرش “غير سوي” وغالباً كان الجاني في مثل تلك القضايا، يعاني مرض “اضطراب الهوية التعددية”، وبالتالي ينتقل بين شخصياته بدون عاطفة أو ذاكرة، يمارس عنفه من خلال فرض رغباته، وإحكام القوة والشعور بها، ليؤكد لنفسه أنه ما يزال قوياً، أو ليشهر العداء في رسالة ضمنية تتحدى المجتمع من حوله، فيظهر شخصية ساخطة بداخله، هو لا يعادي الضحية إنما يود لو يعادي المجتمع بأكمله لأنه ناقم عليه ، الأمر الذي قد يصل به إلى ارتكاب جريمة الإغتصاب، لأن عقد التربية الخاطئة تدفعه لذلك، كشحنة غضب مختزنة بالتزامن مع نمو شخصيته ما يجعله راغباَ في ممارسة التمييز _الذي يشعر بمرارته بالأساس_ وإخضاع ضحيته لمرارة هذا التمييز بسبب نوعها أو عمرها الصغير ، فهو في قرارة نفسه كان ضحية وحان الوقت لعمل استعراض قوة وليس استعراض جنس في حقيقة الأمر. وقبل أن يتخير مسلك الإعتداء الجنسي فقد عقد العزم على ممارسة العنصرية ضد ضحيته ، بتعريضها للإكراه الجنسي وإشعارها بالإهانة والتقليل من شأنها أمام ذاتها ، كأنه يخبرها ضمنياً من خلال فعلته أنها ضعيفة أو كأنه يوجه لها رسالة توحي لها بأنها مجرد جسد لا غير، مما يوحي بخلل أكيد في التربية ، و خلل في تعاريف القوة الشخصية وتشوش في معنى الأخلاقيات و في القواميس الخاصة به ، مفردات القوة والحب والعطف، والتي تتكون منذ طفولة مبكرة جداً ، ولأسباب بيولوجية وبيئية مثل انعدام النظام والتلوث والمرض أو لأسباب اجتماعية مثل الإنهيارات الأسرية والتعرض للعنف الأسري والإهانة وتحطيم الشخصية والقمع والحرمان من الحقوق البسيطة. المتحرش يختار ضحيته للتنفيس عن غضبه الذي أدى به إلى هذا الإضطراب. لا داعي لأن تشعر الضحية بالذنب فلا دخل لها باضطراب الجاني أبداً !
أخطاء :
_الأخطاء المتداولة وأولها لدينا ، هو إقحام الخطاب الديني للتأثير في بحث قضية تحرش بدلاً من اللجوء إلى الطب النفسي أو خبراء الإجتماع والقانون ! وبدلاً من تحرير وجهات النظر من الأحكام المسبقة، ومن فرض الخطاب المقدس الجاهز وضعه مسبقاً في قضية حساسة مثل تلك القضية لها ظروفها الخاصة التي قد تتنافى مع الجمل الجاهزة ، كل ذلك قد يشتت التحقيق العادل في القضايا، وقد يتسبب في برمجة الوعي والعقول على آراء ليست علمية أو كافية للتحقيق في قضية اغتصاب لها كثير من الأبعاد الأشد تعقيداً مثلاً ، والتي من المفترض أن تؤخذ بعين الإعتبار ، فرؤية المشكلة رؤية حيادية ، تؤدي بالضرورة إلى خطوة تصحيح الأوضاع وعلاجها اجتماعياً ونفسياً وتربوياً ، وقيل ” من أجل إيجاد الحل علينا رؤية المشكلة بدون مبالغة”
*ضمن دراسة لوكالة رويترز عام 2010 في قضايا التحرش الجنسي أثبتت أن مصر في المرتبة الأولى بنسبة ٨٣ ٪! ومن هنا ليست الضحية هي المسؤولة. وليست الضحية هي الأضعف بل هي” ناجية” قوية إن حاربت وقاومت. علينا بحث أنماط التحرش بصدق، إطلاقاً من أزمات فرض الوصاية إلى مشكلات تمييز النوع، إلى التنمر والعنف والإغتصاب بكل أنواعه وهذا هو الجدير بالإهتمام فعلاً!
*نشأت “خريطة التحرش” وهي مبادرة تطوعية، بدأت بها “ريبكا تشاو” إحدى مؤسسات المبادرة من أجل إنهاء التقبل المجتمعي للتحرش الجنسي في مصر بالتحديد ، إنهاء العنف الجنسي والعنف القائم على النوع وحجج تقبله ،ومن أجل دفع المجتمع إلى البحث عن حلول علمية بالتحليل والإستقصاء، وتوفير إمكانية الإبلاغ عن التحرش عبر الهاتف أو عن طريق الموقع الإلكتروني!
_والخطأ الثاني يتعلق بطريقة التحقيق في قضايا الإعتداءات الجنسية والإغتصاب بنفس الطرق المتبعة للتحقيق في أية قضية أخرى مثل السرقة أو القتل بحيث تخضع الضحية للتحقيق والأسئلة الجارحة والتي عادة تكون مصحوبة بنظرات مهينة تقلل من شأن الشاكية! عادة تُطرح الأسئلة في أجواء محرجة دون مراعاة لحالة الشاكية الصحية والنفسية بعد التعرض لضرر وقوع الجريمة إن لم تتعرض أقوالها للتشكيك ، وتكون مُطالَبة إما بأن تتقدم ببيانات الجاني وأوصافه (وهو شيء شبه مستحيل) أو تتسامح، وفي بعض حالات الإغتصاب يعرضون عليها حل الزواج بالجاني، ومن المؤسف أن بعض الأسر لا يقدمون الدعم بل تجدهم أحياناً يساهمون في لوم الضحية ، وفي النهاية تكون مضطرة إلى التنازل عن حقها في مقاضاة الجاني “.
*البرمجة الدماغية
قال” ونستون تشرشل” إن الإمبراطوريات القادمة ستكون امبراطوريات العقول ” ومن وحي الجملة يتضح أن المتحرش والمجتمع الذي يسمح بالتهاون والتخاذل عن الحلول يتحولان إلى أدوات تخدم فكرة هدم المجتمع ذاته لتخدم مخططات خارجية ، فيتحول المجتمع إلى معتقل كبير للتعذيب، تتفشى فيه البرمجة العقلية التي تتبنى أفكاراً ليست من أخلاقنا ولا من حضارتنا ولا من شيمنا ولا من النسيج الفكري للمجتمع المصري الأصيل، والهدف أن تصير مقبولة لدينا فكرة انتهاك المرأة لأي عذر يبيح الجريمة ويبررها ! ويتم إقحام أفكار مدمرة في عقول جيل بعد جيل، خلف ادعاء كاذب أنها نسيج العقيدة الحقيقية، أي عقيدة تلك التي تمهد للمتحرش طريقه بحجة إلقاء اللوم على الضحية خاصة إن كانت أنثى أو غير مرتدية للحجاب والنقاب أو امرأة عاملة تخرج للعمل بشرف مثلاً ! بعض المشايخ ما هم بدورهم إلا أسرى لبرمجة عقلية فاسدة تخدم بقصدهم أو بدون قصد مصالح خارجية و تمتثل لخطاب دخيل خلسة، فلم يعد غريباً أن نسمع فتاوى نكاح الميتة وزواج الصغار الشيء الذي جعل الأزهر يتأهب للتحقيق مع أصحاب تلك الفتاوى مراراً، للوقوف على المغزى منها ولماذا قيلت ؟! وأقول أن الغاية وراء بعض تجار الدين ، هي ترسيخ البلادة والسلبية تجاه ما نحميه، تجاه العرض ومعنى الحمى، كي لا نستغرب شيئاً بعد الآن، أن نصير خاضعين بإخضاع المرأة وألا نعترض يوما ما وألا نفكر بعقلية ناقدة في حوادث انتهاك المرأة، بل نعتبرها حاملة الإثم و مجرمة بدورها ونبرر للجريمة بالسير خلف نداء البربرية والتوحش ، الشيء الذي يسبب صدمة جماعية للعقل وبرمجة للأجيال القادمة على مفاهيم خاطئة، فالمرأة ليست مخلوقاَ درجة ثانية، وليست عاراً وعورة، وليست ناقصة عقل، ولا تستحق الضرب أو التعنيف من أجل التهذيب. بل ببساطة إنسان ،وتشكل نصف مجتمع وبانهيارها، ينهار النصف الآخر. وكل شيء معه يتهدم !
*ومن خلال نفس النظرية لتشرشل وهي نظرية اقتحام العقول، تتضح أهمية تغيير المناهج الدراسية بهدف البرمجة العصبية و العقلية والتي من خلالها قد نبدأ في العمل على ترسيخ مبادئ احترام المرأة، والتعريف بالقيم الأصيلة والدين المعاملة، واستغلال وسائل الإعلام في نشر الوعي بقيمة المرأة.
يقول فليتشر بروتي :
” لا يتوجب على أي شخص أن يدير عملية الاغتيال , إنها تحدث من تلقاء نفسها , و الجزء الفاعل في عملية الاغتيال يتم عن طريق السماح بشكل سري لعملية الاغتيال أن تحدث , هذا هو العامل الوحيد الأعظم , إنه بيد من يستطيع أن يلغي أو يقلل من إجراءات الأمن الاعتيادية.”
فالمجتمع الذي يتهاون في التصدي لإنتهاك النساء والأطفال ولا يدعم الناجيات بما يكفي، الذي يشجع على العنف بالسلبية تجاه كل جرائم العنف حولنا ، يضع نفسه في صفة من يدير عمليات اغتيال لا حصر لها ، ويصبح هو الجاني الأول بموقف الصامت المشاهد!