التّطبيع وحضرة المواطن الرّسمي
- بقلم / عائشة بلحاج
- نُشر في العربي الجديد /19/01/2021
من أمقتِ الأمور في مجتمعاتنا، الانتماء الأعمى، ومبدأ الولاء الكامل لصاحب النّعمة، وللحزب والطائفة والقبيلة، والجنس واللّغة والجيل… لا أحد عندنا يحب المواطن النّقدي، أو الفرد الواعي، أو الإنسان المفكّر الذي لا يصفّق لما يقوله “أصحاب الحال”، وهم كل أولياء نعمته، ومصادر نقمته إن لم يُرضهم.
لا يحتاج الأمر نهرًا من الوليّ، ليجتهد الشّخص التابع في تبيان مظاهر الولاء، والتصفيق والتّطبيل والبحلسة، حتى يثير دهشة وليّه، ويتفوّق على أقرانه الذي ينافسونه على رضا مولاه. سواء المنتمي إلى حزب، المدافع عن رأي الأمين العام وجماعته الضيّقة، الذين لا يجرؤ على مخالفتهم، حتى لو مسحوا به، وبمبادئ الحزب الجدران والأزقّة؛ كل ذلك أقل أهمية من الولاء الكامل، والحفاظ على وحدة الحزب حسب رؤسائه، الذين يحمّلونه همّ الوحدة، ويتصرفون في الحزب كعصابة مصالح.
لا يجرؤ أحد مواليهم الذين دخلوا الحزب، سعيا إلى منصب يفيض عن شهيّة الجماعة الأولى في الحزب وما تلاها، مما يُخضعونه به من مطامع قد لا تتحقّق، لا يجرؤ على مواجهتهم به.
أو حضرة المواطن الطبال، مواطن “نعم”، مواطن “ما تريده الدولة”، “لا نعرف مصلحتنا أكثر من الدولة”. المواطن الذي يستظلُّ بالدولة لتغمض عينيها عنه. ولتمنحه بعض العطايا الفائضة؛ فهو ليس بأهمية الكبار الذين وُلدوا كبارا، أو عملوا بكدّ لتسلق المراتب، وتبحلسوا طويلا حتى وصلوا. والآن لن يعوّضهم عن ذلّ الأيام الخوالي في قامة الأقزام، إلّا أن يتبحلس التابعون أكثر، وتضيع هويتهم وكرامتهم في الطريق ليعوّضوا ذلّ أيام زمان.
هؤلاء الذين تكاثروا في الأمكنة والأزمنة، نراهم بوفرة هذه الأيام، مع تطبيع الأنظمة العربية، التي تسعى لمصالحها الخاصة، وتستغل التّطبيع كورقة غير مستهلكة بعد، للحصول على بعض “الأرباح” الخفيفة منها، على الصّعيد الدولي، في عالم غريب ومتقلّب.
كل هؤلاء لم يعودوا يدهشوننا، فلا شيء يدهش مع نوع السّاسة الذين يسوسون هذه البلدان وما فيها إلى هاوية قريبة، بل أدهشنا المواطنون الرّسميون الذين سارعوا إلى التطبيل والتّصفيق للمواقف الرسمية، والتّفاني في الدفاع والتبرير، حتى دَخَلنا العجب منهم.
أين كانت هذه المواقف الغريبة قبلا؟ هل يغيّر الناس جلودهم بهذه السّرعة؟ حتى الذين توقّعنا منهم بعض “الثّقل”، والذين ظنّنا أنّهم أذكى من البحلسة المباشرة واللّاهثة، خيّبوا أملنا، ووقعوا صرعى التّطبيل والتطبيع مع من اعتبرناهم أعداء منذ ولادتنا، ولم نر منهم إلّا سفك دماء شعب كامل… والآن أصبح هؤلاء أحبابنا وأهلنا وأبناء عمومتنا!
عادة ما يغيّر المتلوّنون ألوانهم وأشكال ولائهم بالتّدريج، وبقليل من التأنّي الأوّل قبل الانبطاح. لكن أن يسارعوا جميعا إلى ذلك دفعة واحدة. إنّها علامة العصر الرديء حتى في طُرق الولاء ومظاهره؛ لم يعد الناس يكترثون لماء وجوههم ولزيتها. كم احترمنا من اعتقدنا أنّهم تابعون أذكياء، فينتقدون قليلا، ويوافقون بخفّة في الواجهة، وفي الخفاء يبررون لأوليائهم تقصيرهم بالحفاظ على ماء الوجه، وإقناع بعض المشككيين بنزاهتهم المدّعاة. لكن أن يسارع الجميع إلى التّصفيق لموقف الدولة في التطبيع بدون تردد، وكأنهم ناطقون رسميون باسمها، فيبررون ويمجدون ويعلقون مشانق المعارضين… هنا يتفوّقون على الخيال العلمي نفسه.
يا أنت.. لستَ مواطنًا رسميًا، ولست عضوًا في حزب الدولة، ولا في جماعة، ولا في عصابة. أنت مواطن في دولة مهما كانت حساباتها السّياسية، فإنك لست مسؤولا كفرد عنها، ولا معنيًا بالتخندق معها. هل تعرف أن كونك مواطنا لا يستدعي بالضرورة موافقة الدولة، ولا التصفيق لها ولا التهليل لقراراتها. فأنت نفسك تبرر لها قراراتها بالمصلحة، مصلحتها هي لا مصلحتك أنت، أيها السّاذج.
يمكن لعلمك أن تكون مواطنًا حرًّا وكريمًا ومحترمًا وذو مبادئ، مهما كانت دولتك، تلك أشياء “لا تُشترى ولا تُباع” ولا تمنحها الدول، بل إن إنسانيتك وحقوقك ومواطنتك هي التي تفرض على دولتك احترامك والاستماع إليك. لكن بما أنّ دولنا لا تحترمنا، فلنحترم أنفسنا، ولا نضيّع ما تبقى من إنسانيتنا، ومن كرامتنا التي هي فوق الدولة وفوق الاعتبارات السياسية؛ هي لصيقة بنا لأنّ الإنسان سابق، والرّوح والعقل سابقان على كل ما عدا ذلك ممّا هو زائل. حتى الدول تزول وتختفي وتعود، وتتغير جغرافيتها وتاريخها، إلّا الإنسان الواحد في الانتماء إلى مصادر إنسانيته وسموّها.
كنا نلوم الصّامتين فتبيّن أنهم أكثر احتراما من غيرهم؛ هم على الأقل أدركوا أنهم لا يملكون شجاعة الاعتراض، فتمسّكوا بشجاعة الصّمت، وتحمل الغمز من الطرفين. هو موقف سلبي بلا شك، لكنه أشرف من الدّخول في عملية التّبرير الرسمي، وإيجاد أعذار أقبح من الذنب، مثل حديث وزير الخارجية المغربي الذي دافع عن التطبيع لأنه ليس بالأمر الجديد، وأنّ المغرب “الرّسمي” لم يطرد يوما وفدا إسرائيليا، وكان دائما على علاقة طيبة ووفاق ووئام مع العدو التاريخي للعرب.
كان من الأيسر له تبرير الخطوة بمصلحةٍ طارئة مرتبطة بتغير الوضع الدولي، واقتراب تطبيع جلّ الدول العربية بدرجات مختلفة، في محاولة للتّخفيف من وقع الخطوة. لكن بدلًا من ذلك قفز الخطاب الرسمي إلى الأمام، ليقول ما لا يقال، ويحاول أن يقدّم الطرف الآخر بمرتبة الأخ والصديق والقريب الذي كنا نخشى الإعلان عن علاقتنا معه، لكنّنا كنا دوما “حبايب وقرايب”. فقط العرب كانوا غفلًا وفضّلوا العداء وعدم الفهم، ولم يمتلكوا شجاعة السّلام… إلى غير ذلك من الكلام الذي يخجل العاقل من قوله.
حتى الأمريكيون عرّابو إسرائيل، لم يقولوا عنها ما قاله المطبعون من عبارات الحب والغزل. كأنّ الذي سرق دولة فلسطين وقتل شعبها لعقود من الزّمن، هي كائنات فضائية ألقت باللائمة على الإسرائيليين الأبرياء، ونحن لغفلتنا وسذاجتنا صدّقنا الفضائيين، وكذبنا الحمائم الصّهيونية. والآن أفاق العرب، وأدركوا أنّ إسرائيل دولة سلام، وأن مليونا من المستوطنين اليهود المغاربة الذين ذهبوا إلى “إسرائيل”، فعلوا ذلك ليدافعوا عن مصلحتنا، وينهضوا بنا حين نُطبّع، وندرك أن دولة إسرائيل الصديقة هي التي ستحلّ مشاكلنا جميعًا!