إلى مجلة ميريت الثقافية مع كلّ الودّ
عندما تكذب الرؤى وتخيب التوقّعات
فراس حج محمد/ فلسطين
على أيّ حال، لا شيء له ضمانة إلا بالموت، أعجبني ما كتبه أحد الأصدقاء- معترضا- عندما تناولت إحدى الدراسات إنجازات روائي عربي وأسلوبه من خلال رواية واحدة، وخطر الكتابة عن كاتب حيّ، وإعطاء أحكام أسلوبية ثابتة عنه في دراسة محكّمة، لأنه ببساطة “ما على شباط رباط” كما تقول الجدّات، فيمكن لذاك الكاتب أن يغير أو يبدل، ولا يحقّ لأي كاتب الكتابة عن المشاريع الكتابية إلا بموت أصحابها أو توقف تلك المشاريع إذا جاريتُ صديقي في وجهة نظره، وهي صائبة إلى حدّ بعيد.
لقد كانت الجدات أكثر حكمة منا نحن الكتاب، نحن نتمتع بشيء من الحمق والعجلة، ونفتقر إلى حسن التصرف. هل كل الكتاب هكذا؟ يبدو ذلك صحيحاً إلى حدّ ما. أنا بالفعل تسرعت في كثير من الكتابات، تسرعت في الكتابة عن أليسا عندما غنت “مَوْتِني”، وأعدت في كتابة ثانية الاعتذار من أليسا ومن الفنّ، لم تكن أليسا على حق بالفعل، ولكنني أنا الذي كنت مخطئاً. كيف ذلك؟ لا مجال للشرح لأن الأمر يثير الرغبة في التقيّؤ.
كل شيء يمكن أن يتم تداركه إلا الكتابة، فهي ثابتة إما لك وإما عليك، ولذلك فهي تصبح “مسمار في العُنْطرة”، ولمن لا يعرف “العُنطرة” فهي في لهجتنا الفلسطينية تعني أسفل الرقبة. أمر مزعج لو كان المسمار في العنطرة، فما بالكم لو كان هذا المسمار –مجازياً- في العقل والكتابة؟ إنها كارثة.
أحد المديرين العامّين في وزارة التربية والتعليم كان يخاف كثيرا من الكتابة، حتى وإن كان مجنيا عليه في الكتابة، فــ”العيار اللي ما بصيب بدوش”، وكان يقول لو شتمني أحدهم شفويا لا أغضب غضبي لو كتب عني سطراً. الكتابة لا تموت، لذلك عندما كتبتُ مرة مقالا واشتمّ رائحة لوجوده في المقال عاتبني بمرارة وغضب، وقاطعني سنتين، ومنع أن أزور الوزارة طويلا، وإلى الآن حرمت كثيرا بسبب هذه التي تخيف المسؤولين. إنها الكتابة الخطيرة، وتزداد خطورتها عندما تكون خاطئة كاذبة متسرعة كما أفعل أنا أحياناً. عندي قناعة أن المسؤولين لا يحبون الكتاب إطلاقاً ويهوّنون من أمرهم، ويتجاوزون عنهم ولا يحفلون بهم، فكل الكتاب الموظفين في الوزارات لا يسمع بهم أحد، ولا تساعد الوزارة على أن تنوّه بهم وتشيد في إبداعاتهم لأن المسؤولين يخافون من الكتاب، لأن الكتابة أهم من الوزراء وأتباع الوزراء. بل إن الكتاب أهم من رؤوساء الدول والملوك والأباطرة.
على ما يبدو ابتعدت كثيراً في الحديث عما كنت أريد الكتابة فيه، فالكتابة ذات شجون أيضاً. سأحاول العودة الآن إلى صلب الموضوع؛ لقد خيبت الكتابة ظني في مواقف كثيرة، ليس لأنني على صواب، بل لأنني متسرع، لم أدرك أن الأمور يمكن أن تنحو منحى مختلفاً.
في الشهر الماضي كتبت مقالا احتفاليا بمشروع مجلة “ميريت الثقافية” وقد أصدرت على مدى ثلاثة أشهر متتالية كتبا مجانية مع المجلة، كتبا جديدة تطبع لأول مرة، صغيرة الحجم، وتوزع مجانا إلكترونيا لتصل إلى ملايين القراء المفترضين. هذا المشروع كان جيدا وقد راق لي كثيرا، على الرغم من أنني لست مستفيدا منه لا من قريب ولا من بعيد، سوى أنه لا بد من كاتب ما أن يشير إلى هذا المشروع، فكنت أنا هذا “الكاتب الما”. يبدو أن “ميريت الثقافية” أرادت أن تكذبني صراحة، وتقول لي: كم كنتَ كاذبا متسرعاً، ومن قال لك إننا نحن هكذا لقد خاب ظنك وكذبت رؤاك.
وبمناسبة الحديث عن المقال، لقد قرأ المحررون المقال، وأرسلته إليهم، لكنهم تجاهلوه تماماً ولم يردوا عليه، ولا بحرف. إنه موقف غريب وسيئ على كل حال. ما علينا، فليس من واجب أحد أن يشكر أحدا لأنه كتب فيه مقالاً، حتى وإن كان مادحاً، ولا يجب عليهم أيضا أن يغضبوا إن كتب العكس. وأنا هنا كما كنت في المقال السابق لا أمدح ولا أذمّ، لكنني أصف وأحلل وأحاول أن أفهم بعض الظواهر الثقافية. كأنني أفكّر بصوت مقروء على الورق، ليس أكثر.
“ميريت الثقافية” تُصدر شهر تشرين الأول كتابا مصاحبا مع المجلة، وهو ديوان شعر للشاعر طارق الطيّب، بعنوان “ليس إثما”، وجاء تكذيب المجلة لرؤاي في النقاط الجوهرية الآتية: فالديوان ليس جديداً، إذ سبق لدار آفاق أن نشرته عام 2011، إذاً عمر الديوان عشر سنوات كاملة، وهذه المسألة تطرح عدة أسئلة إبداعية، منها: ما مصير الطبعة الأولى من الديوان؟ وهل نفدت كل نسخها؟ وكم نسخة طبع من الديوان في تلك الطبعة؟ وكم شخصا قرأ الديوان؟ وكم قراءة ومراجعة نقدية كتبت فيه؟ وهل يستحق أن تعاد طباعته؟ وما هو تأثيره الفني الشعري في الحركة الشعرية العربية عموما والمصرية خصوصا ليعود في حلة جديدة؟ وأخيراً أين إنتاج الشاعر طارق الطيب الجديد أم أن جديده رديء أو معدوم لا يستحق النشر، فأعيدت طباعة الديوان القديم؟ وكم في الأمر من علاقة شخصية تحكمت في هذا الإصدار الخاص؟
هذا بخصوص الشاعر نفسه، وأما بالنسبة لغيره؛ ألا يوجد شعراء جدد في مصر يستحقون النشر، أم أن المسألة فيها شيء ما؟ هنا سؤال دائما ما أطرحه: لماذا تعاد طباعة تلك الأعمال وهي في الغالب متوفرة في المكتبات وفي الأسواق؟ أليس من الأولى أن تطبع الكتابات الجديدة ذات الرؤى الثورية الجديدة؟
للأسف هذه ليست مشكلة مجلة “ميريت” وحدها، بل هي مشكلة كل الجهات الرسمية وشبه الرسمية التي تتجه إلى إعادة طبع أعمال الكتاب والشعراء المرحومين، بحجة واهية، وليس الهدف إلا تجاهل الأصوات الجديدة، تلك الأصوات المحقود عليها والمحسودة، كما يفعل عندنا الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، في استعادة كل الشعراء الميّتين، ونسيان بل وتجاهل الشعراء المعاصرين والكتاب المعاصرين إلا فيما ندر، والنسبة ضئيلة جدا بين هذه وتلك، وتحكمها ما تحكمها من مصالح وعلاقات غير ثقافية غالباً، فيما أرى.
أما الأمر الثاني الذي كذّبتني فيه مجلة “ميريت الثقافية”، فهو حجم الكتاب، إذ تكون كل كتاب من الكتب الثلاثة الأولى من (92) صفحة، أما هذا الديوان فيتكون من (120) صفحة، هل من مشكلة في هذا التجاوز غير الكبير في الحقيقة، فثمانٍ وعشرون صفحة زائدة لا تؤثر كثيرا، لكنها بشكل عام، وفي البنية العامة للمشروع فقد خرقت هذا الأساس من الحجم وهو مهم جدا في استقرار ذهنية القراء واستعدادهم النفسي لأن يقرؤا كتابا ذا حجم واحد كل مرة (الحجم الموحد)، كما كانت تفعل مثلا بعض دور النشر وتصدر كتبا بأحجام محددة وعدد صفحات محدد، وهذا ما التزم به مشروع “كتاب في جريدة”؛ إذ كان عدد الصفحات لا يتجاوز (32) صفحة، بما في ذلك المقدمات المعهودة واللوحات المصاحبة. إضافة إلى أن هذا الخرق سيؤدي إلى خروقات أخرى، لاسيما إن تم التعاون مع دور نشر أخرى، وصارت تتدخل في إعطاء الكتب، وتمارس سيطرتها على “ميريت” فتنشر الأعمال التي تريد طباعتها طباعة مشتركة، كما حصل مع الإصدار الرابع الذي تم بالتعاون مع دار الأدهم للنشر والتوزيع.
ما يثير القلق في الحقيقة وجود وصف “كتاب غير دوري” مع الإصدار الرابع، فهل هي مقدّمة للتنصل من المشروع والانسحاب التدريجي؟ لقد خلا هذا الوصف من الكتب الثلاثة الأولى، هل سنشهد موت هذا المشروع في الأعداد القادمة أم سنشهد تذبذبا في نشر الكتب المصاحبة لأعداد المجلة، إنها عبارة مقلقة بالفعل. ولكن وبسذاجة مطلقة هل أرادت “ميريت” أن تكذبني للمرة الثالثة؟ كل شيء وارد في عالم الكتابة.
أرجو لـ “ميريت الثقافية” الاستمرار في نشر الأعمال الأدبية التي تضيف إلى المكتبة العربية الشيء الجديد، وألا تتحول كتبها إلى أعباء على الرفوف، وعلى القائمين على هذا المشروع أن يسألوا أنفسهم ما الجديد الذي قدموه للقراء في هذا العدد؟ ربما سيقول قائل إنها وفرت ديواناً شعريا بالمجان لملايين القراء، وإن لم يكن جديداً فهو جديد بالنسبة للقارئ الجديد الذي يسمع بهذا الشاعر للمرة الأولى، ولكن ألم يكن هناك طريقة أخرى لإعادة النشر دون أن يكون عن طريق المشروع؟ ولماذا مثلا لم تقم دار الأدهم بنشره منفردة دون الاعتماد على “ميريت” أم أن مصلحة مشتركة ما دفعتهم لذلك؟ عدا أنه كان بالإمكان توفير نسخة مجانية إلكترونية من الديوان في طبعته الأولى (2011)، لتنشر في مواقع النشر الإلكتروني المجاني، وما أكثر تلك المواقع! ويساهم موقع “ميريت” بالترويج له بنشر الروابط، إن كان بالفعل يستحق كل هذا العناء وهذه المجازفة، وهذا التبئير الثقافي.
هل ستكذّبني “ميريت” للمرة الرابعة وتخيّب توقعاتي؟ أرجو ألا يحدث هذا كله، ويستمر المشروع لينجب مئات الكتب ومئات الكتّاب الذين يشكل وجودهم في سياق المجلة أوّلا والثقافة ثانياً عامل نضوج وصحة وعافية ثقافية.
تشرين الأول 2021