هناء نور تكتب :
“في مديح الرمادي”
لو أنهم استطاعوا منع إبداعات مارك شاجال من العالم، فهل يستطيع أحد إزالة أثره من نفوس محبيه؟!
لقد أراد شاجال الروسي الفرنسي اليهودي أن يوحدنا ويجمعنا الحب، فكيف يصبح هذا العالم بلا حب؟!
في فيلم “بلا حب” يقدم المخرج الروسي أندريه زفياجنسيف عالما رماديا حزينا تطغى الرأسمالية فيه على المشاعر فتصير الحياة استهلاكية، وبلا مذاق..
أراد زفياجنسيف أن يثبت في ذهن المشاهد مشهد اختباء وبكاء الطفل “أليوشا ” خلف باب الحمام وهو يستمع في ذعر لمشاجرة والديه بخصوصه. الاثنان يريدان التخلص من مسؤوليته؛ الأم تريد وضعه في مدرسة داخلية، والأب يريد أن تتحمل الأم مسؤولية رعاية الطفل وحدها، فهو يستعد لبناء حياة جديدة وهي أيضا تواعد رجلا ترغب في تأسيس حياة جديدة معه.
في صباح اليوم التالي للشجار يغادر أليوشا هذا البيت البارد المجرد من الحب والرحمة دون عودة، ولا تستطيع الشرطة العثور عليه..
تستمر حياة الأب والأم وتكرر حياتهما نفسها.. فوالد أليوشا ينجب من زوجته الجديدة طفلا يتنبأ المشاهد من معاملة الأب الجافة معه أن يصبح مصيره كما أليوشا..
في الوقت نفسه نرى الأم تعيش مع زوجها الجديد حياة باردة كالتي عاشتها مع والد أليوشا..
هكذا هو أندريه زفياجنسيف ومن أهم ما يميز سينماه هذا الطابع الرمادي بما يحمله هذا اللون من معاني الحزن والانطفاء والبرودة، كما يتميز زفياجنسيف بربط نهايات أفلامه ببداياتها..
في بدايات فيلمه “العودة” نرى الطفل “إيفان” وأخاه الأكبر “أندريه” بين مجموعة من الأطفال فوق سطح بناء شاهق يؤدي إلى البحر، يقفز الجميع في البحر إلا إيفان يمكث في مكانه خائفا، يحاول أن يقفز لكنه يفشل، فيجلس باكيا مرتجفا، يصل به الخوف إلى حد منعه من نزول سلم البرج..
تأتي والدة إيفان لتنتشله من خوفه وتساعده على نزول البرج، فيتردد إيفان للحظة رغم خوفه في النزول معها؛ إذ إنه يشك في قدرتها على إخفاء درجة جبنه عن الآخرين؛ هذا الشك نكتشف أنه من سمات شخصية إيفان التي أتقن زفياجنسيف بناءها..
اسم إيفان يعني رحمة الله، أو الشخص الذي يفعل الخير دون انتظار مقابل، كما ورد في الكتاب المقدس..
فما الخير الذي يفعله إيفان؟
في يوم غير عادي يعود إيفان وأخوه أندريه إلى البيت فتخبرهما الأم بأن والدهما قد عاد إلى البيت، كان الأب غائبا منذ 12 سنة ولم يكن من المتوقع عودته..
يتساءل إيفان عن سبب عودته أما أندريه فيتقبل عودته دون تساؤل أو اعتراض..
زفياجنسيف لا يقدم مشاهد زائدة أو مجانية، لكل مشهد عنده أهميته ودلالته..
يترأس الأب مائدة العشاء ويجلس على جانبيه أندريه وإيفان، أما الأم والجدة فتجلسان في نهاية الطاولة، ربما أراد زفياجنسيف أن يظهر من خلال هذا المشهد تراجع مكان المرأة ودورها في وجود السلطة الذكورية..
هناك ما أميل لتسميته بالتفكير الكحولي، فمثلا لو أردت الكتابة عن كيت بلانشيت سأتخيلها تشرب “مارتيني بالليمون” فقد تكرر معها طلبه وظهوره في أكثر من عمل؛ فرأيتها تتميز به، ويليق بها، هكذا وبنفس الطريقة أتخيل أن كل من يحمل الجنسية الروسية يشرب الفودكا في جميع المناسبات..
حين رأيت الأب العائد يملأ الكؤوس من زجاجة النبيذ الأحمر، فكرت في سبب استخدامه النبيذ الأحمر، فتذكرت قصة العشاء الأخير للسيد المسيح وتلامذته..
هذا البعد الديني الذي أضفاه زفياجنسيف للشخصية بشكل غير مباشر ويحتاج للمشاهدة بدقة، يريد من خلاله أن نرى الأب كحكم شمولي تجتمع فيه السلطة الدينية والسياسية والأبوية..
في مشاهد رحلة الأولاد مع الأب، نرى الأب ملقنا، وآمرا، وأحكامه غير قابلة للنقاش..
كما نراه حازما بشكل أكبر مع أندريه الابن الأكبر الذي يجسد الطاعة التامة؛ أي الشريحة العظمى من الشعوب الخاضعة لأنظمة الحكم الشمولي، أما إيفان فالأب يتعامل معه ببعض الحذر، إذ إنه يلاحظ في إيفان فكرة الشك والميل إلى التمرد..
في أحد المشاهد التي تؤكد الشك في نفس إيفان، نراه يقول لأندريه هامسا: ما الذي يؤكد أن هذا الرجل والدنا الحقيقي؟!
فيجيبه أندريه بغضب وتسليم: أمي قالت إنه أبي!.
عندما يأمرهما الأب بالذهاب إلى الصيد، ونكتشف قدرتهما على الصيد، نعود لنتذكر أن نصف تلامذة السيد المسيح تقريبا كانوا من الصيادين، ورغم أن روسيا دولة دينية ينتمي أكثر من 40% من شعبها للطائفة الأرثوذكسية؛ إلا أن زفياجنسيف لا يتقصد السيد المسيح بالتحديد، وإنما يرغب في تذكير المشاهد بوجود أبعاد أخرى لشخصية الأب وبشكل غير مباشر، يلاحظه من يشاهد أفلام زفياجنسيف بعناية..
إيفان يرغب في الهروب من هذا الرجل الذي لا يصدق أنه والده، ولا يفهم سبب عودته، أو ظهوره بشكل مفاجئ في حياتهم.. كما لا يرغب في وجوده بسبب إصداره الأوامر وتعامله القاسي مع أندريه بالقول والضرب..
يتأخر أندريه وإيفان في رحلة بحرية عن الموعد الذي حدده الأب لعودتهما، فينهال الأب بالضربات على أندريه، هذا الاستقواء يخرج إيفان عن صمته فيصرخ بالأب قائلا: إنه سبب التأخير وليس أندريه، ثم يمسك آلة حادة ويهدد الأب، وفي محاولة الأب للسيطرة على الأمر، يركض إيفان حتى يصل إلى البناء الشاهق الذي ظهر في بداية الفيلم…
يصعد إيفان سلم البرج المرتفع دون خوف..
يصعد الأب خلفه لمحاولة إنقاذه من إيذاء ذاته، لكن السلم يتهدم فيسقط الأب من قمة البناء الشاهق ميتا..
ربما أراد زفياجنسيف الربط بين لحظة تحرر إيفان من الخوف، وانتهاء دور الأب؛ الذي هو سلطة متعددة الأوجه..
ثورة إيفان على ظلم أندريه هي فعل الخير الذي لم يكن إيفان ينتظر مكافأة عليه، لكنه حرره من مخاوفه.. فلا يوجد خلاص من الظلم في ظل الخوف..
#هناء_نور
#تضامنا_مع_فصل_السياسات_عن_الفن