سوق ود القيامة
مصعب محمد علي
لم يعد خافيا على البصيرة مقدار التغيير الذي جرى لحياة السودانيين، ثمة فئات اجتماعية واسعة ومقدرة انهارت وانزلقت إلى ما دون خط الفقر، وأخرى صعدت وأثرت بشكل مهول، وظهرت عليها مظاهر الدعة بصور مختلفة. يفترض أن هذا التغيير بديهي في بلاد منكوبة؛ ومؤشر طبيعي لحالة متقدمة من الفساد الذي أصاب الحياة العامة وضرب ثقة المواطنين في السياسيين والمسؤولين والموظفين العمومين في مقتل.
وعلى كل حال؛ فإن شواهد الفساد لا حصر لها، مثل أن ترى شوارعك مهدمة، ومعلميك في المدارس سيئون، ونظامك الصحي منهار، وحياتك صعبة بشكل لا يطاق. في هذا الواقع، وعلى اختلاف الأسباب والملابسات، يبقى خيار “دخول السوق” بغرض التجارة هو الشيء الوحيد الممكن لدى كثيرين: موظفين أو عمال أو عاطلين عن العمل، فثمة اندلاع لهذا النشاط الاقتصادي غير المرصود في بيانات. دلالة السيارات فدخول السوق للتجارة، إما أن تتسع معه الدائرة أو تضيق، ومن يقرر الدخول تنتظره الفرصة التي يمكن أن تغير حياته وإلى الأبد، مثل عز الدين آدم، الملعم السابق بالمدارس الثانوية، الخاسر لكل مدخراته في أقل من عام فقط، لدرجة أنه لا يستطيع إحصاء ما فقده، لكن خسائره جاءت بالتدريج، وازدادت بوتيرة متصاعدة، أثر انقماسه في نشاط تجاري، كان يأمل أن يحقق منه ثراء سريعا. الآن آدم هو جزء من مجتمع مترامي الأطراف ينشط فيه الآلاف من الرجال في المدن المختلفة.
انفق آدم عمرا طويلا، يمتد لأكثر من 15 عاما، في دلالة بيع وشراء السيارات. يعترف “خلال هذه السنوات، لعبت بعقول وأوهمت أخرى.. دخلت باسم حقيقي، وفي سوق السيارات حصلت على اسم آخر، هو ود القيامة”. ورويدا رويدا، تنازل آدم عن حياته القديمة، ولم يعد أحد يناديه باسمه القديم! بالطبع للاسم دلالته، فالمعلم السابق يضع كل سحره وموهبته في خدمة شروط الدلالة، والآن أصبح يحفظ وجوه المرتاديين والتجار، وطريقة مشيتهم، حتى أزيائهم، كما يحفظ الجمل والعبارات التي يفتتحون بها عملية البيع والشراء.
قد لا تختلف العبارات والمصطلحات، لكن وقعها وتأثيرها والإصرار عليها، يعتمد على تجريب السمسار لتنويعاته حتى لايحترق ذاتيا، هو لا يلجأ إلى أي خيارات غير مأمونة الجانب لحظة البيع أو الشراء. صحيح أن الشهوة للمال تصاعدت وأفرزت وضعا اقتصاديا مشوها، قاد المجتمع نحو سلوكيات لا يمكن تجاهل ارتباطها بالنشاط الطفيلي في السودان، فأصبحت هناك دولة خفية تكسر عظم الدولة الأصل، لذا أصبحت هناك أموال هاربة من البنوك، قدرها اقتصاديون بنحو 900 تريليون لهذا العام 2022، وقالوا إن تجارة السيارات تستحوذ على أكبر نسبة من هذه الكتلة النقدية الهاربة (4 أضعاف الأموال المسالة في الزراعة)، ويعزون ذلك إلى أن إدارة الاقتصاد في الدولة يديرها سماسرة.
وفي الواقع تشير التقارير إلى خسارة النظام المصرفي في السودان من العام ١٩٩٧م إلى ٢٠١٤م بحوالي 9 مليارات دولار. في السابق، وقبل أكثر من ثلاثة عقود، لم يكن مسموحا باستيراد السيارات إلا عن طريق تصديق من قبل مؤسسة النقل المكانيكي، فهي الجهة التي تضع الضوابط الصارمة لعملية الاستيراد، وعلى سبيل المثال، ففي سبعينيات القرن الماضي، تعاقدت الحكومة السودانية مع شركة السهاند بير واستوردت سيارات لصالح المهندسين الزراعين، هذا التعاقد تم وفقا لدراسة مناخ البلاد وقدرة سيارة السهاند بير على السير في الأماكن الوعرة والأراضي الزراعية.
لكن ذلك أصبح من الماضي البعيد. دلالة السيارات جنوبي الخرطوم ولكي يجد نظام الإنقاذ المباد فرصته في التحكم في الأموال والسمسرة، كان لابد له من تفكيك المؤسسة وتشريد العاملين فيها، فأصبح استيراد السيارات وقطع الغيار في يد تجار، ينتمي، أو يتحالف، غالبيتهم مع السلطة القائمة وقتها، مع ظهور سيارات غير مقننة تعرف شعبيا بسيارات الـ (بوكو)، وقد كانت واحدة من تجليات الاقتصاد الخفي لنظام الإنقاذ.
اللافت أن تجارة السيارات غير المقننة، وبعد صدور قرارات بمنعها، سرعان ما تدخلت الأيادي التي كانت تعبث بالاقتصاد وتهرب موارده، فأصبحت هي المتحكمة في بيعها في الأسواق، وهي جهات تنتمي إلى جهات رسمية صاحبة سلطة الآن، ونتج عن ذلك اقتصاد ظل، لا يخضع لأية شروط تضعها الدولة. ومع غياب الضوابط، تحولت الأسواق إلى ما يعرف بالهكر في دلالة السيارات، ولها رواد وزبائن ومكان مخصص. دلالة “الهكر” أو “الباطنية” كما يحب سادتها أن تسمى، تقع في منطقة الأزهري، جنوب الخرطوم، وكل بقعة فيها تمت بوضع اليد، لذا نهضت “رواكيب” مشيدة من جولات الخيش، وركائز من أعواد الحطب.
تدير هذه الرواكيب بائعات الشاي، أما التوزيع الجغرافي لها؛ فلم يخضع لأي تخطيط هندسي، المهم ألا تمنع الحركة في حدود ما يسمح بتوزيع الفرص فيما بين السماسرة عند دخولهم في عمليات البيع أو الشراء النشطة. اللافت أن هناك قانونا غير مكتوب في الدلالة لا يمكن تخطيه، ويكاد يكون هو القانون الوحيد الساري، ولم يتغير منذ نشأتها، فشهادة أي سمسار وحضوره لأية مبايعة، يحتم أن يكون له نصيب، يعرف لديهم بـ “العمولة”، وتوزع بين الحاضرين بالتساوي، وبعد الانتهاء من عملية البيع والشراء يتفرق الجميع إلى حال سبيلهم بين الرواكيب.
يقول ود القيامة إن خسائر التجار أو المشترين لا تحصى، وذلك لأكثر من سبب، خاصة في عمليات المقايضة، فهناك عيوب خفية في السيارة، أحيانا قد لا يتمكن أحد الأطراف من اكتشافها وتحديدها، وللسماسرة دور في ذلك، لأن المهم بالنسبة لهم هو الحصول على العمولة من البائع والمشتري، وقد تدفعهم هذه العمولة أحيانا لنصب الفخاخ. وتوصل ود القيامة إلى أن أموال السمسرة تذهب من حيث أتت: إلى العدم.